ما إن شرعت، مع مطلع ستينيات القرن الماضي، بالكشف عن نسيج الألفة بين سحر الطبيعة وسرديات المكان، حتى كانت لوحتها على موعدٍ مع "القطيعة الناعمة" التي طاولت ماضيها القريب والأثير. قطيعةٌ، سرعان ما راحت معها الفنانة الأردنية وجدان الهاشمي (1939)، تُعيد على وقْعِها، آنذاك، مع وقْع نكسة فلسطين، تأثيث أبجدية التصوير والتعبير.
حينها، بدأت لوحتها تخطّ أولى علاماتها في مسارها الجديد؛ كانت الكلمة في هالتها المُنْزَلة، إيذاناً بمسيرتها مع ارتسامات الخط العربي، وإشراقاته على سطح التصوير. كان ذلك بمثابة "انقلابٍ" على التعبير البصري المجرّد، لصالح التعبير اللغوي الذي خصّبتهُ، بدايةً، مع النصّ القرآني، وتالياً، مع النصّ الصوفي، بشحناتٍ بصريةٍ شفيفةٍ، اقترنت بالانعتاق من وطأة التهتك والهلاك.
حضور الحرف العربي على سطح لوحتها، كان كفيلاً بإبعاد مسار التعبير عن إملاءات التشبيه والتمثيل، باتجاه مسارات جديدة خطّت معها أفقاً مفتوحاً على روحانية العالم المرئي.
"قبل حرب 1967، لم يعرف الحرف طريقهُ إلى أعمالي التي كانت تتوزّع، بحسب مقاربات التصنيف، بين التجريدية والانطباعية. أما بعد الحرب، فقد اختفت أشكال التمثيل من لوحتي، واختفت الألوان التي كنت أحتفي معها بمشهديات الطبيعة، وجماليات المكان، وحلّت مكانهما الكلمة المُنْزَلة المرسومة بطريقة بدائية باللونين الأسود والأبيض" تقول الفنانة لـ"العربي الجديد".
وبعد مرور الزمن الكفيل بـ "التئام الجرح" بحسب تعبيرها، عادت الفنانة الأردنية، مرةً أخرى، إلى استخدام اللون والشكل في أعمالها ضمن "نسقٍ خطّي" طوّعته وفق رؤيتها ومخيّلتها البصريّتين. تضيف "كانت تلك بداية انطلاقتي مع الخط العربي الذي تشكّلت معه لوحتي (الخطيّة) بمرجعياتها الجمالية والتعبيرية التي يكتنزها الفن الإسلامي، بوصفه ترجمةً روحانيةً للحياة".
بعد مرور نحو ربع قرن من النكسة، وعلى إثر اجتياح العراق للكويت، عاد الحرف العربي بإيقاعٍ آخر إلى لوحتها، ساحباً معه مأساة كربلاء إلى شلالات الدم الجديدة المراقة باسم العروبة والإسلام.
ثمّةَ بوحٌ يغالبهُ صمتٌ موشّى بالحيرة والظنون، تلوذُ به الفنانة حين تسرد سيرة الجرح العربي الطويل، منذ كربلاء وضياع فلسطين واجتياح الكويت، وما نشهدهُ الآن من تكالبٍ محمومٍ على إشاعة الظلام والخراب. تقول "كان اجتياح العراق للكويت بالنسبة لي من المصائب الكبرى التي ستخيّم على العالم العربي. فلأول مرةً منذ مأساة كربلاء، يحدث هذا الانشقاق المريع بين الأشقاء الذين تربطهم وحدة العروبة والإسلام".
وسواء أكان الشرخ الذي فعل فِعلهُ في الجسد العربي بعد حرب الخليج الثانية، سبباً في عودة الحرف العربي، بمحمولاته الجديدة، إلى سطح لوحتها، أم لم يكن؛ فإن تلك العودة لم تكن من باب الخيار المزاجي، أو "الترف الصوفي" بقدر ما كانت لدى الفنانة الأردنية، نتيجةً لعُسْر التمثّل البصري لكربلاء جديدة.
تقول "شهد عالمنا العربي والإسلامي العديد من الحوادث الكربلائية، ولم أخفِ توجّسي بعد حرب الخليج الثانية، من حدوث مائة كربلاء قادمة. وظلّت مأساة كربلاء ومخرجاتها بالنسبة لي، ملحمةً لا يمكن تمثّلها، أو التعبير عنها، إلا بالحرف والكلمة".
بقدر ما كانت لدى الأميرة الأردنية وعميدة كلية الفنون والتصميم في الجامعة الأردنية (2002-2006) وسفيرة الأردن في إيطاليا حتى العام 2011، نتيجةً لعُسْر التمثّل البصري لكربلاء جديدة "شهد عالمنا العربي والإسلامي العديد من الحوادث الكربلائية، ولم أخفِ توجّسي بعد حرب الخليج الثانية، من حدوث مائة كربلاء قادمة. وظلّت مأساة كربلاء ومخرجاتها بالنسبة لي، ملحمةً لا يمكن تمثّلها، أو التعبير عنها، إلا بالحرف والكلمة".
المخرجات التعبيرية التي رشحت، بعد ذلك، من تراكمات التجربة على امتداد محطاتها الفنية، لم تترك مجالاً لتفادي الإنصات إلى الرنين المُتحدّر من جرس العلاقة بين سيرة الفنانة، ومسيرتها المتواصلة على مدار نحو نصف قرن من التقصيّات البصرية في رحاب التجريب والتجديد؛ رنينٌ، غطّت أصداؤه الأولى، أفق التماهي بين الصورة والكلمة، لتظلّل لاحقاً، أفق "العلاقة المركّبة" بين منجزها الإبداعي، وانشغالاتها الأكاديمية والثقافية والدبلوماسية على غير صعيد.
تحصيلها الأكاديمي الذي واشج بين التاريخ والفن الإسلامي، منذ حصولها على بكالوريوس التاريخ في العام 1961 من كلية بيروت للبنات (الجامعة اللبنانية الأميركية حالياً) ومن ثم حصولها على درجة الماجستير في الفن الإسلامي من كلية الدراسات الشرقية والأفريقية بجامعة لندن (SOAS) في العام 1991، لتتبعها بتحصيل الدكتوراه في تاريخ الفن الإسلامي من الجامعة نفسها في العام 1993؛ مكّنها من الوقوف على المسافة الملتبسة بين الفن والتاريخ، لا لتقول التاريخ كما هو، أو تستنسخهُ على هذا النحو أو ذاك، وإنما، لتبعث فيه الحياة على شكل رسائل حُبّ خضّبها الفن بالفرادة والجمال.
الجمال، بوصفه نقيضاً للكراهية والقبح، لم يجد مجالاً في أعمال الفنانة التي أسست الجمعية الملكية للفنون الجميلة في العام 1979، والمتحف الوطني الأردني للفنون الجميلة 1980؛ سوى الانحياز إلى قيم الحب والتفاني والحلول في الآخر، ليجد في الروافع البصرية والتعبيرية التي توفرت عليها لوحتها، وجهته نحو معارج إشراقيّةٍ محفوفةٍ بالشفافية والضوء.
تقول "لم أتخيّل أن نصلَ إلى ما وصلنا إليه اليوم من تفرقة وكراهية وعداء. وما تتحفنا به وسائط الإعلام كل لحظة من خراب وظلام، شكّل لديّ ردّةَ فعلٍ اقتربتُ معها من إشراقات الصوفية، على الرغم من كوني غير متصوفة".
وقوفها على الإرث الصوفي الإسلامي، خصوصاً مع ابن عربي وجلال الدين الرومي وحافظ شيرازي، وابن حزم الأندلسي وغيرهم، تقاطع مع كشوفاتها الجمالية التي خلُصت معها إلى ما تسمّيه بـ "المدرسة الخطيّة" قبل نحو ربع قرن من الآن، مقابل التسمية الرائجة عربياً اليوم التي تطلق عليها تمسية "المدرسة الحروفية"، حيث يُعدّ الخط المنطلق الفعلي للحرف، وسابقاً عليه في الوجود؛ وهو التقاطع الذي جعلها أكثر انفتاحاً على مواد التعبير وتقنياته المتنوعة، لتستحيل المادة في عملها، بمذاقاتها الحسيّة وخصائصها الفيزيائية، إلى طاقة استشراف وانعتاق من جمود التفكير والتعبير، سواء على مستوى العمل الفني، أم على مستوى الواقع المعيش.
تعتبر الهاشمي أن "الصوفيين لا ينكرون من يخالفهم، ويتقبّلون الآخر كما هو. بينما أصبح لدينا حركات وجماعات دينية في العالم العربي والإسلامي، لا تتوانى، إن لم تكن معها، عن تكفيرك وقتلك".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ورق وزجاج
في أعمالها الأخيرة التي حملها معرض "شفافيات: ورق وزجاج" في "المتحف الوطني الأردني للفنون الجميلة"، لم تخرج وجدان الهاشمي عن سياق تبصّراتها بأحوال المرئي، ومعاينة جوهر تحوّلاته بمنظورٍ حداثيٍ وثيق الصلة بخزينه الشرقي، وبمحيطه الحافل بالتوترات والتغيّرات. "شفافيات" لم تخرج عن سياق استدراج المرئي إلى تلك "المكامِن" التي صار معها علامةً منذورةً لـ "حلول" التشخيص في التجريد.