وثائقي وكتاب يحتفلان بجورج نصر: ذاكرة بلد وسينما

20 نوفمبر 2017
جورج نصر (فيسبوك)
+ الخط -
منذ الدورة الـ 70 (17 ـ 28 مايو/ أيار 2017) لمهرجان "كانّ" السينمائيّ، تحتفل بيروت بالمخرج اللبناني جورج نصر (1927)، أحد روّاد صناعة الفيلم اللبناني، بين خمسينيات القرن الـ 20 وسبعينياته، تحديداً.

والاحتفال متأتٍ من تكريمٍ فرنسيّ دوليّ خاصّ بالمهرجان المذكور، في قسم "كلاسيكيات كانّ"، الذي يستعيد أفلاماً معروضة في دورات سابقة، ومتحوّلة إلى عناوين ثابتة في المسار التاريخي للفن السابع في العالم، فيعرضها مجدّداً بنسخ مرمَّمة. في تلك الدورة، كُرِّم جورج نصر، بعرض نسخة مرمَّمة من فيلمه الروائي الطويل الأول "إلى أين؟" (1957)، كبداية احتفال لبناني نظّمته مؤسّسات خاصّة، كـ "جامعة البلمند" ("أكاديمية الفنون الجميلة")، وشركة "أبّوط للإنتاج" (جورج شقير)، و"مهرجان طرابلس للأفلام" في لبنان (الياس خلاط)، بالتعاون مع جهات مختلفة، منها "مؤسّسة لبنان سينما" و"نادي لكل الناس" و"استديو دي بي" و"وزارة الثقافة" اللبنانية.

احتفال "كلاسيكيات كانّ" تزامن ومرور 60 عاماً على العرض الدولي الأول لـ "إلى أين؟"، في الدورة الـ 10 (2 ـ 17 مايو/ أيار 1957) للمهرجان نفسه. أما احتفال بيروت، فمتمثّل بإصدار كتاب باللغة الفرنسية، بعنوان "جورج نصر: السينما الداخلية"، بإشراف غسان قطيط، وبتحقيق فيلم وثائقيّ (65 د.) بعنوان "نصر"، لأنطوان واكد وبديع مسعد، المُشارك في مسابقة "آفاق السينما العربية"، في الدورة الـ 39 (21 ـ 30 نوفمبر/ تشرين الثاني 2017) لـ "مهرجان القاهرة السينمائيّ الدوليّ".

والفيلم، بحدّ ذاته، يُصبح، تاريخياً، بمثابة "انطلاقة جديدة" لسينما لبنانية محلية، تمرّ في حالات تأسيسية عديدة، وتخوض تحدّيات جمّة، إنتاجياً ودرامياً وجمالياً، قبل أن تتمرّد على طغيان النمط الاستهلاكيّ ـ التجاريّ البحت، في ستينيات القرن الـ 20، مع توافد تقنيين وسينمائيين مصريين إلى لبنان، إثر قيام النظام الناصري المصريّ بتأميم قطاع السينما، نهاية خمسينيات القرن نفسه.

حكاية جورج نصر، التي يرويها أمام كاميرا الشابين واكد ومسعد، تُشبه ـ إلى حدّ ما ـ حكاية السينما في البلد، في مراحلها التأسيسية تلك: فمنذ إعلان "دولة لبنان الكبير" (1920)، ثم الاستقلال (22 نوفمبر/ تشرين الثاني 1943)، وخروج آخر جندي فرنسي من الأراضي اللبناني (31 ديسمبر/ كانون الأول 1946)، ولبنان يتخبّط في ارتباكاتٍ سياسية واقتصادية واجتماعية (باستثناء فترات قليلة للغاية)، في مقابل غليانٍ ثقافي متنوّع التوجّهات والأساليب (بين نهاية خمسينيات القرن الفائت ومنتصف سبعينياته تحديداً)، لن تتمكّن الحرب الأهلية اللبنانية (1975 ـ 1990) من إلغائه كلّياً، رغم المعارك والخراب والعنف.

حكاية جورج نصر ـ الذي يُنجز "الغريب الصغير" (1962) بالفرنسية، و"المطلوب رجل واحد" (1975) ـ تُشبه حكاية السينما في لبنان أيضاً، باضطراباتها وتحدّياتها ومنعطفاتها و"أحلامها المُعطّلة"، خصوصاً في الفترة السابقة لظهور "السينما البديلة"، قبيل اندلاع تلك الحرب بأعوام قليلة، وتختزل معنى الصدمة والخيبة، اللتين تُصيبان، ولو قليلاً، حماسةَ عشقٍ غير منتهٍ للصورة وأدواتها وتقنياتها، في ذات جورج نصر وروحه ووعيه وأحلامه، رغم مصاعب جمّة، تحول دون قدرته على تحقيق أكثر من 3 أفلامٍ، لن يتمكّن مهرجان "كانّ" ـ المحتفي به مرتين اثنتين ـ من "دعمه" في عروضٍ لبنانية، أو في تمكّنه من الحصول على إنتاجٍ يليق بمشاريعه ورغباته وأهوائه، أو في مواجهته "هيمنة" مصرية على السوق اللبنانية، إذْ يُردِّد نصر ـ في الفيلم الوثائقيّ والكتاب الفرنسيّ، وفي مناسبات متفرّقة ـ قصّة ضغوط يمارسها مصريون على موزّعين لبنانيين، تتمثّل بـ "ضرورة" منع عرض "إلى أين؟" (مثلاً)، وإلاّ فإن الصالات اللبنانية لن تعثر على فيلمٍ مصري واحد، ما يُمكن أن يؤدّي إلى خسائر مالية باهظة.

الوثائقيّ ـ الذي يكتب، بالحوار والأرشيف والصُوَر الفوتوغرافية والأشرطة المُصوّرة، سيرة سينمائيّ لبنانيّ ـ يُشكِّل خلاصة عمرٍ وأحلامٍ، ومسار فردٍ يواجه، لوحده، تحدّيات كثيرة، كي يُحقِّق شيئاً من رغباتٍ، منبثقةٍ من صُوَرٍ تصنعها مخيّلة مراهقٍ، وحماسة شاب، ومغامرات رجلٍ يُحافظ على "عهدٍ" يلتزمه دائماً إزاء السينما: عشق لا مثيل له، وارتباط ـ عضوي وإنساني وأخلاقي وانفعالي ـ بها، واشتغالاتٍ تحميه من الانزلاق في أفخاخ منتجين وموزّعين، فتأخذه إلى النوع التسجيلي ـ الوثائقيّ الخاص بشركات ومؤسّسات، أو إلى عالم التدريس الأكاديمي، غداة انتهاء الحرب الأهلية.

أما كتاب غسان قطيط، فنتاج تنقيبٍ وجهدٍ علميّين، بحثاً عن كلّ ما يتعلّق بهذه السيرة، الحياتية والإنسانية والسينمائية، المرتكزة على سردٍ للحكاية، وأرشيف (كتابة وصُوراً) يعكس محطات ولحظات وأعمال ولقاءات، وتوثيقٍ يمنح القارئ متعة الغوص في ذاكرة وتاريخ، هما جزء أساسيّ من ذاكرة بلدٍ وتاريخه، ومن ذاكرة ثقافة وتاريخها، ومن ذاكرة مجتمع وتاريخه، ومن ذاكرة سينما وتاريخها.

كتابٌ مُشبع بالوثائق، المترافقة ونصوص نقدية وشهادات تكريمية وحوارات مطوّلة، يُمكن الركون إليه في قراءة سيرة السينمائيّ، وسيرة البلد وسينماه أيضاً.




دلالات
المساهمون