لا يغادر أبو محمد النبعة منزله المتواضع على كتف أحد السفوح الجبلية المرتفعة في بلدة قب الياس البقاعية، شرق لبنان، قبل أن يضبط الحطّة (الشماغ) على رأسه. تساعده زوجته أم يوسف في تعديلها وترتيب ملابسه السميكة قبل مغادرة المنزل فجراً ليسرح بـ"الطرش"، أي قطيع الماعز والغنم بلغة أصحاب المهنة، في الجبال.
يُقبّل على باب المنزل ابنه الأصغر أنس، البالغ من العمر سنة و3 أشهر، ويستقبل بكره محمد، البالغ من العمر 55 عاماً والمقيم في منزل صغير مجاور. الفارق بين الاثنين أكثر من نصف قرن. يتجاوز عمر أحفاد محمد نفسه، عمر أخويه أنس ويوسف، اللذين رزق بهما أبو محمد، بعد زيجة جديدة. ماتت "أم الأولاد" قبل عشر سنوات، واستصعب الرجل المُسنّ العيشة من دون زوجة فأعاد الكرّة ورزق بطفليه الأخيرين.
يتسلّق مرتفعاً صغيراً ليصل إلى الحظيرة التي تجتمع فيها رؤوس الغنم والماعز. "يهشّ" عليها لتخرج وتصطف أمام المنزل كما اعتادت. يحلبها أبو محمد بيديه ويعيد التذكير بفوائد الحليب الذي أنقذ به صيادين تسمموا في الجرود، ويداوي به كلّ مريض يقصده. تسحب زوجته حصة المنزل من الحليب لتفويره (غليه) في إناء كبير، قبل تقديمه إلى أطفال العائلة والجيران. ويهم زوجها بسوق "الطرش" إلى الجرد. الجرد في لبنان هو كلّ منطقة نائية في البلدات الحدودية أو الجبلية. وتتميز جرود البقاع بوعورة مسالكها التي تؤدي إلى قمم سلسلة جبال لبنان الشرقية. لا يعيق العمر أبو محمد عن تسلّق المرتفعات لرعي الماشية، ونادراً ما يرافقه أحد أبنائه أو أحفاده، الذين يأتون بهدف التسلية فقط. يقتصر زاده في الجرد على المياه والحليب، بانتظار عودته عصراً إلى المنزل حيث تنتظره وليمة السميد (البرغل) الذي يحبه كثيراً كما يقول لـ"العربي الجديد".
يربط الرجل خلال حديثه بين عمره، الذي لا يتذكره تحديداً، ونشاطه وقدرته على الإنجاب وبين نظامه الغذائي الصحي: "كلّ ما آكله أو أشربه يأتي من الأرض مباشرة". يشير إلى إحدى العنزات التي ترعى قرب المنزل. تفاجأ العنزة بانعكاس صورتها على باب سيارة حديثة قادتها إحدى سيدات بلدة تعلبايا من أجل شراء اللبن من أبو محمد، فتجفل وتركض ويركض خلفها باقي القطيع الصغير. تكتفي العنزات بقضم رأس العشب النابت فقط دون الجذور. بذلك، تختار أفضل الأعشاب المنتشرة على قمم الجبال لتأكل منها، بعكس الأبقار والأغنام التي تجترّ كلّ الأعشاب الظاهرة أمامها مع الجذور وحتى التراب.
اقــرأ أيضاً
تعرفت السيدة على عائلة أبو محمد قبل 15 عاماً، وباتت زبونة "وأختاً" تزورهم بشكل دوري للحصول على المنتجات الطازجة. وهو ما دأبت عليه عشرات العائلات البقاعية التي تزور أبو محمد منذ استقراره في قب الياس عام 1982. وهو تاريخ الاجتياح الصهيوني لبنان، الذي أدى إلى نزوح آلاف العائلات اللبنانية من مناطق الجنوب نحو البقاع وبيروت وجبل لبنان هرباً من القوات الغازية التي تحولت إلى قوة احتلال دامت 18 عاماً، وتبقى منطقة المزارع محتلة حتى اليوم بالرغم من الانسحاب الصهيوني من القسم الأكبر من الأراضي اللبنانية في 25 مايو/ أيار 2000.
غادر أبو محمد أرض أجداده في مزرعة الرمثا في مزارع شبعا اللبنانية المحتلة، واستقر في البقاع. استأجر الغرفة الصغيرة التي توسعت مع الوقت، وانضمت إليها حجرة إسمنتية أكبر لتصبح الغرفة منزلاً لعائلته التي واصل تكوينها مع زوجته الأولى وتألفت من 3 شبان و4 فتيات. يعدّهم أبو محمد بالترتيب، ويضحك عندما يصل العدّ إلى طفليه الصغيرين.
"كفاها المولى يا طويل العمر"، يقول أبو محمد لدى سؤاله عن رغبته في الإنجاب مجدداً. يضع طفليه في حضنه قبل أن يعود إلى المنزل ليقدم مضافة الحليب الفائر إلى زائريه. ويخيّرهم بين شربه مع القهوة أو الشاي أو سادة (بلا أيّ إضافة).
يأمل أن يعود إلى أرضه وأملاكه في الرمثا بعد زوال الاحتلال، ويشير ابنه الأكبر محمد إلى امتلاك العائلة كلّ الأوراق القانونية التي تثبت ملكيتهم أرضهم وأنّها أرض لبنانية محتلة. ومع الحديث عن الأوراق الرسمية، تذكّر زوجة أبو محمد، أم يوسف، أنّ محاولات تسجيل طفليها لم تنجح بعد، بالرغم من مرور 3 سنوات على ولادة يوسف. تعيد ذلك إلى جنسيتها السورية التي تُعرقل تسجيل الطفلين "بسبب ظروف الحرب واللاجئين".
يحتضن أبو محمد زوجته وطفليه أمام باب المنزل عند العصر قبل استئناف العمل، ولا تسمح له أم يوسف بالمغادرة قبل أن تطبع قبلة على خده. هكذا يبدأ يوم أبو محمد النبعة بقبلة ويستمر.
اقــرأ أيضاً
يُقبّل على باب المنزل ابنه الأصغر أنس، البالغ من العمر سنة و3 أشهر، ويستقبل بكره محمد، البالغ من العمر 55 عاماً والمقيم في منزل صغير مجاور. الفارق بين الاثنين أكثر من نصف قرن. يتجاوز عمر أحفاد محمد نفسه، عمر أخويه أنس ويوسف، اللذين رزق بهما أبو محمد، بعد زيجة جديدة. ماتت "أم الأولاد" قبل عشر سنوات، واستصعب الرجل المُسنّ العيشة من دون زوجة فأعاد الكرّة ورزق بطفليه الأخيرين.
يتسلّق مرتفعاً صغيراً ليصل إلى الحظيرة التي تجتمع فيها رؤوس الغنم والماعز. "يهشّ" عليها لتخرج وتصطف أمام المنزل كما اعتادت. يحلبها أبو محمد بيديه ويعيد التذكير بفوائد الحليب الذي أنقذ به صيادين تسمموا في الجرود، ويداوي به كلّ مريض يقصده. تسحب زوجته حصة المنزل من الحليب لتفويره (غليه) في إناء كبير، قبل تقديمه إلى أطفال العائلة والجيران. ويهم زوجها بسوق "الطرش" إلى الجرد. الجرد في لبنان هو كلّ منطقة نائية في البلدات الحدودية أو الجبلية. وتتميز جرود البقاع بوعورة مسالكها التي تؤدي إلى قمم سلسلة جبال لبنان الشرقية. لا يعيق العمر أبو محمد عن تسلّق المرتفعات لرعي الماشية، ونادراً ما يرافقه أحد أبنائه أو أحفاده، الذين يأتون بهدف التسلية فقط. يقتصر زاده في الجرد على المياه والحليب، بانتظار عودته عصراً إلى المنزل حيث تنتظره وليمة السميد (البرغل) الذي يحبه كثيراً كما يقول لـ"العربي الجديد".
يربط الرجل خلال حديثه بين عمره، الذي لا يتذكره تحديداً، ونشاطه وقدرته على الإنجاب وبين نظامه الغذائي الصحي: "كلّ ما آكله أو أشربه يأتي من الأرض مباشرة". يشير إلى إحدى العنزات التي ترعى قرب المنزل. تفاجأ العنزة بانعكاس صورتها على باب سيارة حديثة قادتها إحدى سيدات بلدة تعلبايا من أجل شراء اللبن من أبو محمد، فتجفل وتركض ويركض خلفها باقي القطيع الصغير. تكتفي العنزات بقضم رأس العشب النابت فقط دون الجذور. بذلك، تختار أفضل الأعشاب المنتشرة على قمم الجبال لتأكل منها، بعكس الأبقار والأغنام التي تجترّ كلّ الأعشاب الظاهرة أمامها مع الجذور وحتى التراب.
تعرفت السيدة على عائلة أبو محمد قبل 15 عاماً، وباتت زبونة "وأختاً" تزورهم بشكل دوري للحصول على المنتجات الطازجة. وهو ما دأبت عليه عشرات العائلات البقاعية التي تزور أبو محمد منذ استقراره في قب الياس عام 1982. وهو تاريخ الاجتياح الصهيوني لبنان، الذي أدى إلى نزوح آلاف العائلات اللبنانية من مناطق الجنوب نحو البقاع وبيروت وجبل لبنان هرباً من القوات الغازية التي تحولت إلى قوة احتلال دامت 18 عاماً، وتبقى منطقة المزارع محتلة حتى اليوم بالرغم من الانسحاب الصهيوني من القسم الأكبر من الأراضي اللبنانية في 25 مايو/ أيار 2000.
غادر أبو محمد أرض أجداده في مزرعة الرمثا في مزارع شبعا اللبنانية المحتلة، واستقر في البقاع. استأجر الغرفة الصغيرة التي توسعت مع الوقت، وانضمت إليها حجرة إسمنتية أكبر لتصبح الغرفة منزلاً لعائلته التي واصل تكوينها مع زوجته الأولى وتألفت من 3 شبان و4 فتيات. يعدّهم أبو محمد بالترتيب، ويضحك عندما يصل العدّ إلى طفليه الصغيرين.
"كفاها المولى يا طويل العمر"، يقول أبو محمد لدى سؤاله عن رغبته في الإنجاب مجدداً. يضع طفليه في حضنه قبل أن يعود إلى المنزل ليقدم مضافة الحليب الفائر إلى زائريه. ويخيّرهم بين شربه مع القهوة أو الشاي أو سادة (بلا أيّ إضافة).
يأمل أن يعود إلى أرضه وأملاكه في الرمثا بعد زوال الاحتلال، ويشير ابنه الأكبر محمد إلى امتلاك العائلة كلّ الأوراق القانونية التي تثبت ملكيتهم أرضهم وأنّها أرض لبنانية محتلة. ومع الحديث عن الأوراق الرسمية، تذكّر زوجة أبو محمد، أم يوسف، أنّ محاولات تسجيل طفليها لم تنجح بعد، بالرغم من مرور 3 سنوات على ولادة يوسف. تعيد ذلك إلى جنسيتها السورية التي تُعرقل تسجيل الطفلين "بسبب ظروف الحرب واللاجئين".
يحتضن أبو محمد زوجته وطفليه أمام باب المنزل عند العصر قبل استئناف العمل، ولا تسمح له أم يوسف بالمغادرة قبل أن تطبع قبلة على خده. هكذا يبدأ يوم أبو محمد النبعة بقبلة ويستمر.