وادي الجن والشياطين

24 فبراير 2015
+ الخط -
يكاد يكون البيان، أي ملَكة التعبير وفنّ القول، "الألفا والأوميجا"، في التراث العربي. و للفصاحة وحسن السرد في ذهن أجدادنا نفسُ المقام الملَكي لِلعِلمِ في حضارة اليوم. في منظورهم: لأكاديميةِ كبار نجوم البيان: امرئ القيس والمتنبي وأبو نوّاس والجاحظ مثلًا، مرتبةُ كوكبة كبار علماء اليوم: آينشتاين، داروين، نيوتن، جاليليو.
لذلك، لا يختلف مرور مرشّحٍ لامتحان القبول أمام تلك الأكاديمية عن مرور المسابقات "النوبلية" اليوم، بكلِّ صعوباتها الاصطفائية وشروطها النخبوية.
في كتابه، "رسالة التوابع والزوابع"، الذي ترجم للفرنسية مؤخرًا، يغامر ابن شُهيد الأندلسي بغية عبور امتحانات الأكاديمية.
لا يمكن استيعاب يوميات مغامرتهِ، قبل الإجابة عن السؤال: كيف يتفجّر البيانُ في ملكات الأديب، من منظور تراثنا؟
إجابة التراث غامضة؛ الخلق والفطرة. يرافقها في ميثولوجيانا العربية تفسيرٌ إضافي: ثمّة جنيٌّ، من قبيلة بني الشيصبان، يتبعُ كل أديب كظلِّه، يمدّه بالكلمات والأفكار والصيغ التعبيرية : "ولي صاحبٌ من بني الشيصبان/ فطورًا أقولُ وطورًا هوَ"
من الطبيعيّ، إثر هذا الاعتقادِ، أن يتصوّرَ دماغٌ عربيٌّ ويؤثثَ عالَمَ هؤلاء الجن الذين يمدّون للأديب يد الإلهام، مثلما تصوّر الإنسان الأوّلُ حياةَ الأرواح، التي عدّها نفخات تغادر الجسد بعد الموت، وأثَّثَ عالَمهَا الآخر بمختلف أصناف الجنّات والجحيم.
ابن شُهيد شاعر موهوب من أسرة قرطبية نبيلة. يسرد في كتابه، يوميّاته وهو يعبر وادي جنّ تابعي الأدباء، برفقة تابعهِ: زهير بن نمير الذي تجلّى "على فرسٍ أدهم متكئ بِرمح" ذات يومٍ للشاعر وهو مرتبكٌ "استغلق عليه البيان"، لا يستطيع مواصلة قصيدته. فأنقذهُ زهير بالبيت الشعري الذي سمح له بالاسترسال. يرتبطان بعدها بعلاقةٍ وديّة رقيقةٍ رقّةَ ابن شُهيد. ثمّ يعطيه زهير "كلمة السرّ" التي تسمح باستحضاره في أيّة لحظة؛ ثلاثة أبيات شعرية كلّها عشقٌ ورهافة : "إذا ذكرَتهُ الذاكرات أتاها"، ثمّ يُحدِّدُ: ذاكراتُ من "يهوى الهوى" بالطبع، كابن شُهيد الذي بمجرد تمتمةِ هذه الأبيات، يخيّل لزهير أنه "يُقبِّلُ فاها".
يبدأ ابن شُهيد رحلته مع زهير بأقاليم توابع الشعراء من الجنّ، ثمّ أدباء النثر. يسأله زهير من يريد أن يرى كلّ مرّة. ما إن يردّ الشاعر حتّى يقوده زهير في أفياء الوادي الساحر نحو ديار وقصور تابعِ من يصبو لرؤيته، أو إلى حارات يجتمع فيها ويثرثر مع صحبٍ لهُ من توابع أدباء العرب.
يستهل عبور إقليم الشعراء بتوابع فحول الجاهلية: الجنّي عتيبة بن نوفل، تابع امرئ القيس، ثمّ الشيطان "الزوبعة" عنتر بن العجلان، تابع طرفة بن العبد. يسرد ابن شهيد جغرافية رحلته مع تابِعهِ نحو ديار العجلان الذي يناديه زهيرُ: "حلّ بك زهير وصاحبه. فبخولة، وما قطعتَ معها من ليلة، أما عرضتَ وجهكَ لنا؟. فبدا لنا راكبٌ جميلُ الوجه، قد توشّج السيف، فقال مرحباً بكما!". يسترسل الشاعر رحلته مع المجدّدين كأبي تمّام والبحتري، يناقشونه في جمالية نصِّه ومحتواه، قبل أن يجيزوه بشهادة قبوله شاعرًا فذًّا. وجميلة بشكل خاص رحلتهُ نحو "منازل أبي نواس في دير حنّة"، ومسرح الرحلة والاستقبال قبل لقاء جلالة تابعِ أبي نوّاس: الجنّي حسين الدِّنان "وبيده طَرجهارة، وحواليه صبية تعطو إلى عرارة". لم يكن الدنّان "صاحياً" جدّاً، كما يبدو. يقول زهير لابن شُهيد: "اقرع أذنَ نشوتهُ بإحدى خمريّاتك!". فيستيقظ الدنّان، ويُسمِعُ أبا شهيد قليلاً من أبيات أبي نواس "تخرجني من جلدِي طرباً"، يقول الشاعر. ثمّ يبدأ الامتحان الصعب.
لم يجز تابعُ أبي نواس الشاعرَ، إلا بعد أن ينشدهُ أبياتٍ في وصف من "شربتْ أعطافهُا خمر الصِّبا، وسقاها الحسنُ حتّى عربدا". يواصل الدنّان الامتحانَ مع ذلك، طالباً من تلميذه أن ينشده بعضًا من رثائه، وجحدريّتَهُ في السجن، وقطعةً من شعر المجون. "ثمّ استدناني، فدنوت منه، فقبَّل بين عينيّ وقال: أنت مجاز. فانصرفنا عنه وانحدرنا من الجبل".
يختتم زيارة إقليم الشعراء بطلب زيارة "خاتمة القوم": تابعِ المتنبي. يقول زهير لمتبوعه: "اشددْ له حيازيمك، وعطِّرْ له نسمك، وانثرْ عليه نجومك!". لم يكن تابع المتنبي سهلاً بالطبع. يطلب من تلميذه غالباً: "انشدني أشدّ من هذا". ولم تكن شهادته، التي وجّهها عبر زهير صريحة: "إن امتدّ به طلق العمر، فلا بدّ أن ينفث بِدرر". ثم لجأ ابن شُهيد لِنكتةٍ لغويةٍ فنيّة جعلت ممتحنهُ يقول: "اذهب فقد أجزتك بهذه النكتة!".
الشاعرُ الذي قرّر خوض امتحانات الأكاديمية، ينتقل من ثمّ إلى إقليم أدباء النثر. يقابل توابعهم الذين كانوا مستغرقين في اجتماع؛ توابع الجاحظ وعبدالحميد والإفليلي وبديع الزمان وغيرهم. ويقدّم لهم نصوصًا تبرهن على براعة أسلوبه وموهبته في السرد والوصف والتعبير، وينال إجازتهم الأكاديمية أيضاً.
ابن شُهيد صاحب المفاجآت يأخذني في فصلين مدهشين من سردهِ إلى إقليم نقّاد الجنّ، ثمّ إقليم حيوانات الجنّ. وعفو الخاطر تحضرني "رسالة الغفران"، لا سيّما جزئها الروائي "رواية الغفران" التي كُتِبت في الفترة نفسها. وفيها، يتصوّرُ أبو العلاء أن راويهِ الشهير ابن القارح قد مات ودخل الجنّة. ويكون الاستهلال بسرد يوميّات "نعيم" ابن القارح و"لياليه الساهرة" فيها، قبل أن يعود إلى الخلف لِيُفصِّل تجربة ابن القارح المضنية في عبور موقف الحشر، ثمّ دخوله الجنة بالوساطات. وفيها يستأنف المعري سرد يوميّات ابن القارح، وحواراته مع عدد من شعراء الجاهلية والإسلام، وأهل الأدب. ومن بعد الجنّة لا بدّ من جهنم للقاء أبي مرّة: الشيطان. ومن بعد جهنم، الجنّة ثانية للقاء آدم والحوار معه، وزيارة أحياء غريبة فيها. خلال كلّ النصوص الشذراتية لحوارات وتنقّلات ابن القارح في أفياء الآخرة، يصف أبو العلاء جغرافية الجنّة والجحيم وعوالمهما، جنّات الجنّ والحيوانات، جنّات شعراء الرجز. إشكاليات رواية الغفران ومواضيع فيلسوفها العظيم شاسعةٌ جدّاً مقارنة برسالة التلميذ النبيه ابن شُهيد. فالمعري لا يستعرض فقط مقدراته الأدبية النقدية والتخييلية العبقرية الاستثنائية، لكنه يسرد روائيّاً كثيرًا من تأمّلاته الفلسفية الزاخرة، يبسطها ويغلغلها في كلّ أرجاء حقول الميثولوجيا الإسلامية.
المساهمون