وأخيراً ظاهرة الـ "بيست سيلر"

20 فبراير 2015
الحكيم مع نجيب محفوظ وأم كلثوم
+ الخط -

تبدو ملفتة اليوم كل هذه الضجة المثارة حول الكتاب "البيست سيلر" أو الأكثر مبيعاً أو الكتاب التجاري أو الأدب الخفيف.

يبدو ملفتاً لأنه لم يخرج من الظلام ولم يأت فجأة، بل كان موجوداً طوال الوقت، وكان قراؤه يقفون في الصفوف لشرائه، ويتابعون مواعيد صدوره بلهفة وشغف، ذلك لأنه الكتاب الأسهل قراءة، الذي يناسب أعمار المهتمين به، ولأنها كانت مرحلة ينتقلون بعدها إلى الكتاب الأصعب، الأعمق إنسانية، الملغّم بأسئلة وجودية وفلسفية، أو الراصد لتطورات المجتمعات والثقافات.

هل ثمة سوء نية من جانب بعض الناشرين ووسائل الإعلام للتأكيد على نشر وانتشار "الأدب الخفيف"؟ أم أن العملية كلها لا تعدو أن تكون عملية تجارية يتربحون منها قرشين وينتهي الأمر؟ أم أن خروج هذا الكتاب من منطقته الآمنة، أي دور النشر المتخصصة فيه، وانتقاله إلى دور نشر كبيرة عقدت مع القارئ اتفاقية على تقديم منتج جدير بالقراءة، مثل "دار الشروق"، جعلته يكتسب شرعية مخالفة لشرعيته الأولى ككتاب "بوب آرت"؟

تبدو العملية شديدة التشابك، كأن كل القوى اتفقت، ربما ضمنياً أو بمحض الصدفة، على توجيه لطمة قاسية للثقافة الرفيعة لصالح تسطيح العقل المصري، بتسليط الضوء على كتابة "كلينكس" وتقديمها باعتبارها "الأدب" بألف لام التعريف.

منذ عقدين أو ثلاثة، كانت هناك سلسلة من الأدب الخفيف يكتبها الكاتب نبيل فاروق، ثم جاوره أحمد خالد توفيق، وكان يسبقهما محمود سالم؛ سلسلة كانت تتلقى الكثير من الترحاب والشغف من جانب القراء الفتيان.

ولعل توفيق كان أكثر هؤلاء الكتّاب حظاً بين القراء، حتى أن شخصيته "رفعت إسماعيل" كانت مثل فرد أساسي من أفراد العائلة المصرية، لمن لديهم أبناء من مواليد الثمانينيات. وكان توفيق، ولا يزال، من أكثر الكُتّاب مقروئية من جيل الشباب. هذا كان واضحاً، كان متفقاً عليه، كانت هذه كتابة لعمر محدد تفتح لقرائها أفقاً جديداً يسمح لهم بالانتقال لمرحلة أكثر نضجاً.

وبالفعل انتقل قراؤه إلى نجيب محفوظ ويوسف إدريس وواصلوا حتى كتابات الألفية، بل إن منهم من صار كاتباً. لم يدّعِ توفيق في أي وقت أنه يكتب أدباً رفيعاً. كان يعلم أنه يقدّم "بوب آرت"، قصصاً من أجل التسلية. وبالمناسبة، لم يكن هناك أي تسليط للضوء عليه رغم صفوف القراء.

لكن، ما يحدث في السنوات الأخيرة، خصوصاً بعد ثورة يناير، هو ظهور موجة من "الكتابات الخفيفة" التي لا يعلم كُتّابها أنها خفيفة، وتقدّمها دور النشر باعتبارها كتابات مهمة، ويصدرونها للقراء على هذا الأساس، والقراء، أغلبهم في سن المراهقة، يشترونها لأنها تناسب أعمارهم، مثلما كنا نفعل عندما كنا في أعمارهم، لكن من دون أن يضللنا أحد بأنها كتابة "مهمة".

ومع انتشار هذه الكتابة، تعمل الآلة الصحافية على تتويجها، من دون أن يقوم النقاد بدورهم في تصنيفها كـ "أدب خفيف". فالروايات من نوعية "أدب الرعب" مثلاً، أو أدب المغامرة أو الجريمة، ليست جديدة على عالم الأدب، بل كانت تسير بالتوازي مع "الأدب الرفيع" وتسجّل أعلى المبيعات دائماً، لكن لم يتوقع أحد من قبل أن تفوز أغاثا كريستي، مثلاً، بجائزة نوبل، ولا اقترح أحد أن يُضمّ أدب أحمد خالد توفيق في نفس خانة أدب إبراهيم أصلان أو جمال الغيطاني.

النوعان كانا موجودين دائماً، لكن الأدب التجاري أو الخفيف اختار المكاسب المالية والقراء الكثيرين، فيما اختار الأدب الرفيع الارتقاء بروح الإنسان وبعقله، وبتفكيك الموروث وإعادة مساءلته، ومنح فرصة أكبر للعقل ليبحث عن حقائق من خلال طرح الأسئلة.

هذا بديهي، بديهي لدرجة أن كتابة ذلك وتوضيحه أمر مؤسف، فكأن مؤامرة ما تحاك لتهميش كل ما هو حقيقي لصالح كل ما هو مزيف، ولتسطيح العقل المصري ومن ثم السيطرة عليه وتوجيهه. مؤامرة يتواطأ فيها الجميع، على الأقل بالصمت.

* روائي ومترجم من مصر 

دلالات
المساهمون