هينر سليم: التغريبة الكردية في سيرة سينمائي

26 يونيو 2015
هينر سليم في تورونتو 2007 (تصوير: سكوت غريس)
+ الخط -

في روايته "بندقية أبي" المنشورة أخيراً بالعربية (بالتعاون بين "دار آفيستا" في تركيا و"جريدة باس نيوز" في أربيل، ترجمة: سعيد محمود، 2015)، يستعرض المخرج الكردي العراقي هينر سليم محطات هامة من تاريخ الكرد بدءاً من قيام جمهورية مهاباد في إيران (1946)، وصولاً إلى سقوط نظام صدام حسين (2003).

تأتي أحداث الرواية على لسان سليم الذي عاش في المناطق الكردية-العراقية حتى أيام شبابه الأولى، قبل أن يتجه إلى إيطاليا ومنها إلى فرنسا، وليصبح بعدها أشهر المخرجين الكرد.

الهوية الكردية لـ سليم لا يمكن ردها إلى الأصل البيولوجي أو إلى العقدين الذين قضاهما في بلاده فقط، بل إلى مجمل أعماله السينمائية التي تحظى بإجماع مفاده بأن قضية الكرد وسلسلة عذاباتهم، تشغل قلب أفلام ومواقف وتصريحات مخرج "وطني المر والحلو" (2013).

في رواية "بندقية أبي"، المنقولة إلى ما يزيد عن ثلاثين لغة حول العالم، نجد أن التطابق جلي، ومنذ اللحظة الأولى، بين شخصية الطفل/الراوي وشخصية الكاتب/المخرج نفسه. وما نعثر عليه في سيرته الذاتية يحضر بدقة في عمله الذي يأخذ طابعاً سيرياً:

"من مواليد 1964، بدأت علاقته بالصورة عندما كان طفلاً أخذ يقلّب صفحات مجموعة شعرية مزوّدة بالرسوم أحضرها والده إلى البيت، ثم تعلق بالتلفزيون وأقسم أن يجعل هذا الجهاز يتكلم بالكردية. كرّر قَسَمه عندما دخل السينما للمرة الأولى في حياته، وسحرته الشاشة الكبيرة في مهاباد التي كانت عاصمة أول جمهورية كردية (..) اضطر لمغادرة كردستان العراق هرباً من بطش صدام حسين وهو في السابعة عشرة من عمره".

الطفل، الذي سنتعرف على وعيه للعالم مع الصفحات الأولى للرواية، سيكون تفسيره للكون على النحو التالي: "كنت أعرف أننا نتكلم الكردية، والعراقيون يتحدثون العربية، وبقية العالم يتحدثون الإنكليزية".

تشكل بندقية الأب التشيكية "البرنو" الغرض الأكثر دلالة وحضوراً في رواية سليم، فهي التي كانت لا تفارقه كيفما تحرك، وهي التي اختبر معها أول إحساس برجولة مبكرة وهو طفل حين أطلق النار للمرة الأولى نحو السماء.

كما أنها تحيل إلى تعلق الأب بخياره في المقاومة للدفاع عن هويته ووجوده، ذلك على عكس الابن الذي أوحى له تاريخ عائلته الصغيرة والكبيرة "الكرد"، الذين لم تنفعهم البندقية يوماً، بضرورة البحث عن أشكال أخرى للمقاومة، ومن هنا جاء حلمه بدراسة السينما.

الراوي هو آزاد شرو سليم، كان يعمل والده مع الجنرال البرزاني على الجهاز الخاص بالشيفرات "المورس"، وهو ما لا يوجد في الرواية إلا كحكاية يستعيد عبرها الأب بعضاً من ماضيه، وربما تشكل مصدر فخره الأكبر، الأكثر مرارة هو فشل الأب في إحدى المرات إصلاح جهاز "المورس" والتظاهر أمام الجميع بأنه هو من أصلح الجهاز وليس الجندي العراقي. الحادثة السابقة مؤسسة في وعي الطفل، حيث دفعته إلى التفكير بطريقة مغايرة إلى هذا الماضي المتمركز حول "المجد الضائع" الذي لا يشكل إلا حكاية ساحرة لكن لا جدوى من مواصلة العيش في كنفها وتوسلها في الواقع.

يتخذ الكاتب في الحادثة السابقة موقفاً نقدياً من العقلية الموتورة التي كانت تقدّس وتبجل السلاح، ولا تلبث أن تدفع أبناءها إلى أن يخون بعضهم البعض. العقلية نفسها التي نجدها تعدم أكراداً بطريقة فاشية لمجرّد الشك بكونهم خونة، ثم نكتشف مع الطفل بأنهم لم يكونوا كذلك، كما في المشهد الذي تسير فيه الجموع وهي تحمل نعشاً فارغاً نحو بيت "العميل" ثم قتله بوحشية والناس تهتف "تحيا كوردستان.. يعيش الجنرال" كل ذلك على مرأى من الطفل، الذي نكتشف معه بأن القتيل لم يكن عميلاً وكل الشكوك أثيرت حوله بسبب سفره المتكرّر إلى الموصل حيث عشيقته.

ينتقل الراوي الطفل مع عائلته، التي تعاني مرارات النزوح والتهجير القسري، مثلها في ذلك مثل العائلات الكردية في كردستان العراق، فتضطر إلى الانتقال من مدينة أخرى نتيجة حالة العنف الممنهج ضدهم في تلك الفترة من عهد البعث العراقي. كما أنه يشهد فقدان أفرادٍ من عائلته إما بسبب القتل أو بسبب الاختفاء القسري. بعد كل الظلم الذي عانته العائلة، يذهب الفتى إلى الجبال ويعايش مقاتلي البشمركة وينقل مشاهد وصوراً من حياتهم اليومية في المغارات والكهوف.

تسرد "بندقية أبي" ملامح الظلم والقهر التي شكلت الهوية الكردية في القرن العشرين، وما حل بالكرد عبر تاريخهم، فيَرِدُ ذِكر واحدة من أكبر المجازر التي ارتكبت بحقهم من قبل القوات التركية في وادي زيلان عام 1930، وليس انتهاءً بديكتاتورية البعث التي سعت إلى إنهاء كل ما يمت بصلة إلى الكرد وثقافتهم. كذلك تستحضر بعضاً من مكوّنات الثقافة الكردية وأعلامها كالمغني السوري الكردي الشهير محمد شيخو والشاعر الكردي ملاي الجزيري وغيرهما.

 عندما يقرّر البطل مغادرة كردستان في نهاية الرواية هرباً من بطش نظام صدام حسين، يحمل في حقيبته زياً كردياً وشريط أغانٍ وديوان شعر كرديين. يعاني بعدها من مصاعب كثيرة في سبيل الوصول إلى الحدود السورية. يصل البطل إلى الحدود ويسلمه السائق إلى حرس الحدود، لكنه يكلم السائق بالكردية، الذي يكتشف بأنه كردي مثله، وينقذه من حرس الحدود كونه يتعامل معهم. سيصل بعدها البطل إلى سورية لتنتهي الرواية.

سنعرف من سيرة الكاتب بأنه من سورية سيغادر إلى أوروبا ليصبح مخرجاً سينمائياً شهيراً، سيكتب روايته هذه في عام 2004، وتترجم إلى أكثر من ثلاثين لغة.

ونحن نقرأ المصائر الفجائعية لأفراد العائلة التي ذكرها الكاتب في الصفحة الأخيرة من كتابه: أخته التي عاشت في معسكرات الاعتقال، وابن خاله الذي مات تحت التعذيب، ووالده الذي مات ولم يتمكن من حضور جنازته، وغيرها من المصائر الفجائعية؛ تداهمنا، في ذات الوقت، مصائر أولئك الذين لم يتوسّط لهم السائق الكردي عند حرس الحدود لكونهم ليسوا أكراداً.

الثابت الوحيد الذي يمكننا توقعه بأن مصائرهم ليست أقل فجائعية من المصائر التراجيدية لشخصيات الرواية.على النحو السابق، تبدو السردية التي تردّدها شخصيات كردية في الرواية كثيراً حول أن سايكس بيكو كانت مؤامرة على الكرد، تصلح كمظلومية تتبناها أي جماعة إثنية أو عرقية، وإن بدرجات مختلفة، في هذه البلاد التي ما من حكاية تنقذها من جحيمها الحالي.

المساهمون