لم تكن "هيباتيا" امرأة عادية في تاريخ الإسكندرية، ولكن كما يقول المؤرخ والرياضيّ البريطاني مايكل أ. ب. ديكين: "إن أكثر الحقائق المؤكدة والمفصلة عن حياة هيباتيا، هي سجلات وفاتها، والمؤرخون يعلمون عن موتها وأسبابه من المصادر أكثر مما يعلمون عن أي جانب آخر من جوانب حياتها".
قتلت الفيلسوفة والعالمة هيباتيا في شوارع الإسكندرية، وتذكر المصادر القديمة - حتى المسيحية منها، والتي كانت تناصبها العداء وادعت بأنها كانت ساحرة - أنها كانت معروفة على نطاق واسع، لكرمها وحبّها للتعلم وخبرتها في تدريس مواضيع مثل الأفلاطونية الحديثة والرياضيات والعلوم والفلسفة بشكل عام.
ولدت في الإسكندرية، لكن يختلف المؤرخون في ما إذا كانت ولدت سنة 350 م أو 370 م. وقد درست الرياضيات وعلم الفلك والفلسفة على يد والدها "ثيون"، وهو من آخر الأساتذة في جامعة الإسكندرية القديمة، بينما لا يعرف المؤرخون شيئاً عن والدتها، كما لا تتوافر عن حياة هيباتيا الاجتماعية سوى القليل من المعلومات.
وفي مدينة كانت في نمو مستمر لتنوّعها الديني والثقافي، كانت هيباتيا صديقة مقربة من محافظ الإسكندرية "الوثني" "أوريستس". لكن الأسقف الأرثوذكسي للإسكندرية "كيرلس" ألقى باللوم على هيباتيا لعدم قبول المحافظ الإيمان بالمسيحية، كان الأسقف ينظر إلى هيباتيا على أنها حجر عثرة أمام أولئك الذين كانوا سيؤمنون بالمسيحية ويتقبلونها لولا الكاريزما الساحرة لهيباتيا، وتميزها في العلوم وقدرتها على تبسيط المفاهيم الرياضية والفلسفية الصعبة وتقريبها لفهم الطلاب.
هذه المفاهيم وقتها كانت تتناقض مع تعاليم الكنيسة الجديدة، وكانت الإسكندرية مركزاً عظيماً للتعلّم في الأيام الأولى للمسيحية، ومع ازدياد أتباع المسيحية في العدد وتمكنهم من السلطة، أصبحت المدينة المثقّفة مقسّمة بشكل كبير بين الفصائل الدينية. يرى الباحثون أمثال "ديكين" أنه ليس من المبالغة القول إن الإسكندرية دُمِّرت بوصفها مركزاً للثقافة والتعلّم، بسبب التعصّب الديني، ثم جاءت هيباتيا لتكون رمزاً لهذه المأساة، إلى حد أن موتها يُستشهد به بوصفه نهاية للعالم الكلاسيكي القديم.
بكل المقاييس كانت هيباتيا امرأة غير عادية، ليس فقط في وقتها، ولكن على مدار التاريخ. لقد رفض والدُها "ثيون" أن يفرض على ابنته الدور التقليدي المحدَّد للمرأة، ورفعها إلى الدرجة التي يرفع فيها اليونانيون أبناءَهم الذكور، فعلّمها تجارته الخاصة: العلم. تكتب المؤرخة ويندي سلاتكين: "إن النساء اليونانيات من جميع الطبقات كن يشغلن النوع نفسه من العمل، وتركز في الغالب على الاحتياجات المنزلية للأسرة، ورعايتهن للأطفال الصغار، والمرضى، وإعداد الطعام.
لكن هيباتيا من ناحية أخرى قادت حياة أكاديمية محترمة في جامعة الإسكندرية، وهو دور كان للذكور فقط، كما تشير الدلائل القديمة. وهبت نفسها للعلم ولم تتزوج طوال حياتها، إذ كرّست نفسها للتعلم والتدريس". وتضيف سلاتكين أن الكتّاب القدامى يتّفقون على أن هيباتيا كانت امرأة ذات قوة فكرية هائلة.
ويكتب ديكين عن أن اتساع اهتماماتها هو أكثر ما يثير الإعجاب بهذه الفتاة: في الرياضيات، وفي علم الفلك (بما في ذلك جوانبه الرصديّة - والإسطرلاب)، والهندسة (وكانت الهندسة علماً متقدماً في ذلك الوقت)، والجبر (وهو من العلوم الصعبة وقتها)، وصنعت تقدّماً في التقنية الحسابية. كلُّ هذا فضلاً عن الانخراط في الفلسفة الدينية والموهبة في أسلوب الكتابة الجيّد. وكانت كتاباتها هي أفضل ثمرة لتدريسها في المجالات التقنية للرياضيات. وفي الواقع، كانت مستمرة في برنامج بدأه والدها من أجل الحفاظ على تراث الأعمال الرياضية السكندري.
كان هذا التراث مثيراً للإعجاب، حتى أن الإسكندرية تنافست مع أثينا باعتبارها جوهرة العلم والثقافة. فمنذ تأسيسها من قبل الإسكندر الأكبر في عام 332 قبل الميلاد، نمت المدينة لتجسيد أفضل جوانب الحياة المتحضرة. كان المؤرخ والجغرافي اليوناني سترابو (63 ق.م - 21 م)، من أوائل من وصفوا المدينة بأنها جامعة ذات قيمة عالية، لدرجة أن العلماء يتوافدون إليها من جميع أنحاء العالم.
ويقال إن رفوف مكتبة الإسكندرية الكبرى، قد احتوت في المبنى الرئيسي على 500 ألف كتاب، وأكثر من ذلك في مبنى ملحق مجاور لها. وبصفتها أستاذة في الجامعة، كان بإمكان هيباتيا الوصول يومياً إلى هذا المورد، ويبدو جلياً أنها استفادت منه بالكامل.
في عام 415 م، وهي في طريقها إلى البيت بعد تقديم محاضراتها اليومية في الجامعة، تعرّضت هيباتيا لهجوم من قبل عصبة من الرهبان المسيحيين، الذين سحبوها من عربتها التي تجرّها الخيول في الشارع إلى كنيسة، وهناك جُرِّدت من ملابسها تماماً، وضُربت عاريةً حتى الموت، ثم أُحرقت جثتها. وفي أعقاب وفاتها، نُهبت جامعةُ الإسكندرية، وأحرقتْ بناءً على أوامر من "كيرلس" أسقف الإسكندرية، ومُنعت أي ديانة تخالف المسيحية، وكان هناك نزوح جماعي للمثقّفين والفنانين من المدينة المسيحية الجديدة.
وفي وقت لاحق أُعلن كيرلس قدّيساً من قبل الكنيسة، لجهوده في قمع "الوثنية" والقتال من أجل الإيمان الحقيقي (وكيرلس الأول هو البابا السكندري والبطريرك الرابع والعشرون، الملقب "عمود الدين ومصباح الكنيسة الأرثوذكسية"). وقد اعترف العالم منذ فترة طويلة بأن وفاة هيباتيا كانت علامة فاصلة في التاريخ بين العصر الكلاسيكي القديم، وعصر المسيحية.
في فيلم "أغورا" الروائي الذي عرض عام 2009، ويحكي قصة حياة هيباتيا وتفاصيل موتها، يصوّر بدقة الاضطرابَ الدينيّ في الإسكندرية عام 415 م. وقد أثار الفيلم جدلاً عند عرضه من بعض الشرائح، التي اعترضت على تصوير المسيحيين الأوائل بوصفهم متعصبين ضد العلم والثقافة. غير أن التاريخ أوضح أن الإسكندرية بدأت في الذبول شيئاً فشيئاً مع ازدياد وتنامي المسيحية في السلطة، ثم جاءت وفاة هيباتيا لتجسّد كل ما فقدته الحضارة بسبب محنة التعصب الديني.