هل يعيد السبسي بناء نفسه؟

22 يناير 2015

الباجي السبسي متحدثا في أثناء حملته الانتخابية (15ديسمبر/2014/أ.ف.ب)

+ الخط -

لا أحد يجادل في أن الباجي قايد السبسي هو عميد السياسيين التونسيين (89 سنة)، فقد ولد زمن البايات، وعايش مراحل الكفاح الوطني ضد الاستعمار الفرنسي، وشهد دولة الاستقلال (1956)، وتقلد مناصب عدة في عهد الحبيب بورقيبة، متنقلًا بين وزارتي الداخلية والدفاع. كما أدرك عصر الدولة القامعة على عهد الجنرال زين العابدين بن علي. وتولى رئاسة مجلس النواب في ردح قصير من الزمن (1987- 1989). لينأى بعد ذلك بنفسه عن المشهد السياسي في تونس، ويتفرغ للاستمتاع بفترة التقاعد وإدارة مشاريعه الخاصة. لكن المصادفة الجميلة وحظه السعيد جاءا به إلى قصر الحكومة من جديد، بعد ثورة 17 ديسمبر/كانون الأول 2010 – 14 يناير/كانون الثاني 2011. فبعد فشل محمد الغنوشي في إدارة البلاد، في مرحلة انتقالية هشة، عين الرئيس المؤقت، فؤاد المبزع، الباجي رئيساً للحكومة. وعلى الرغم مما تميزت به تلك الفترة من هزات، في مقدمتها تزايد المظاهرات الاحتجاجية، والاعتصامات المطلبية، وصعود التيار السلفي، ونزوع جماعات إلى القيام بأعمال إرهابية هنا وهناك، نجح السبسي نسبيًا في استعادة الاستقرار، وتأمين الانتقال السلمي نحو أول تجربة ديمقراطية عرفتها تونس في انتخابات 23 أكتوبر/تشرين الأول 2011. وقَبل وقتها بتسليم السلطة إلى الإسلاميين (حركة النهضة) وحلفائهم، مستجيبًا لنتائج صندوق الاقتراع.

وبعد صعود الترويكا (النهضة، مؤتمر من أجل الجمهورية، التكتل من أجل العمل والحريات)، ظل السبسي فاعلاً في المشهد السياسي التعددي الجديد، وأفاد، أيما إفادة، من الحالة الديمقراطية التونسية الوليدة بعد الثورة، فعمد إلى استجماع طيف كبير من البورقيبيين والتجمعيين، وعدد مهم من اليساريين، والليبراليين، والمواطنين غير المنتمين سياسيًا تحت يافطة حزب "نداء تونس" الذي أسسه حديثًا (مارس/آذار 2012). ومكّن له في المدن والأرياف، ووجد له سندًا من إعلاميين ورجال أعمال متنفذين. وقد استثمر السبسي جيدًا أخطاء الترويكا، خصوصاً ما يتعلق بعجزها عن مكافحة الإرهاب، وقصورها في الحد من البطالة، ومحدودية أدائها في مجال الاستثمار والعلاقات الخارجية، فوظف الرجل تلك النواقص ليقدم نفسه وحزبه بديلاً عن الائتلاف الحاكم. وأتى جهده، وأتباعه، في استنزاف الترويكا سياسيًا وإعلاميًا أكله، ففاز "نداء تونس" بأكبر عدد من المقاعد، في انتخابات مجلس نواب الشعب (أكتوبر/تشرين الأول 2014). وتمكن السبسي من الفوز برئاسة تونس، بعد منافسة حامية بينه وبين سلفه محمد المنصف المرزوقي (ديسمبر/كانون الأول 2014).

والواقع أن المهمة الجديدة للسبسي في قصر قرطاج لن تكون سهلة في نظر الملاحظين، فالرجل يواجه تحديات موضوعية وذاتية عديدة. فعمليًا، هو مطالب وحزبه بتحمل أعباء الحكم، وهو معني شخصيًا باستعادة ما يسميها هيبة الدولة، ومعني بإعادة الحيوية للدبلوماسية التونسية، وتعزيز الشراكة بين تونس ودول المتوسط، وبينها وبين دول الاتحاد الأوروبي، ودول الخليج العربي، على نحو يعيد الثقة للمستثمرين، فيتخذوا من تونس وجهة لرأسمالهم التليد الهارب. وهو مطالبٌ، أيضًا، بتفعيل دور المؤسسة العسكرية في تأمين الحدود، والحفاظ على مراكز السيادة، والتصدي للهجمات الإرهابية التي تهدد المال والعباد على السواء.

من الناحية الذاتية، يذهب متابعون للشأن التونسي إلى أن السبسي سليل الديكتاتورية، وليس في مقدوره صناعة الديمقراطية، أو الحفاظ عليها، أو الدفع بها قدمًا، ففاقد الشيء لا يعطيه. ويستند أصحاب هذا الرأي إلى أن الرئيس الجديد لم تكن له سابقة في مقارعة الدولة القامعة، والدفاع عن المعارضة والحريات العامة، بل كان من رموز النظام القديم المعروف بانتهاكاته المتعددة لحقوق الإنسان. وتواجه السبسي، في هذا المقام، أسئلة عديدة، يطرحها أنصاره، وخصومه، وعموم المواطنين على السواء، وهي: هل في مقدور السبسي إعادة بناء نفسه سياسيًا؟ هل بإمكانه أن يتجاوز الماضي، ويرسل رسائل طمأنة إلى الناس؟ هل في وسعه أن يتكيف مع مقتضيات الزمن الديمقراطي التونسي الجديد، ويساهم فعليًا في إقامة معالم الجمهورية الثانية، ويكدّ في تحقيق أهداف الثورة، "شغل، حرية، كرامة وطنية"، أم أن الأمر خلاف ذلك؟

الإجابة عن هذه الأسئلة، الآن وهنا، أمر مبكر، فلا يمكن بحال إصدار أحكام ناجزة في الرجل، قبل مراقبة أدائه في أعلى هرم السلطة، فمع أن ماضيه البعيد يثير الريبة، ويبعث المخاوف، فإن حضوره، في المشهد السياسي بعد الثورة، قد تميز بدرجة عالية من البراغماتية والمرونة والانفتاح التفاعلي على الفرقاء السياسيين، حتى إنه مد الجسور مع أعلام اليساريين والليبراليين في البلاد في المرحلة الانتقالية، وذلك في إطار تجربتي الاتحاد من أجل تونس وجبهة الإنقاذ. ولم ير حرجًا في التنسيق مع زعيم حركة النهضة راشد الغنوشي (لقاء باريس في 15-08- 2013)، لوضع حد للاستقطاب الثنائي بين الترويكا وخصومها فترة اعتصام الرحيل، واعتصام الصمود (2013)، وساهم في تيسير تنازل الإسلاميين عن السلطة بطريقة سلمية، والاحتكام إلى مرجعية الحوار الوطني الذي مهد لحكم التكنوقراط والاستحقاق الانتخابي سنة 2014.

في هذه اللحظة الدقيقة من تاريخ تونس، أمام السبسي خياران: الأول أن يكون رئيساً فخريًا جامعًا كل التونسيين، رافضًا التغول والحكم العائلي أو الحزبي، وداعمًا التحول الديمقراطي، مع الحرص على ترجمة الدستور إلى واقعٍ، يعيشه عموم المواطنين، فيرقى بذلك إلى مقام الأب الروحي للجمهورية الثانية. والخيار الثاني أن يكون سببًا من أسباب الارتداد عن الديمقراطية، والنكوص عن الثورة، وهو ما لا يأمله، ولا يرتضيه، المواطن الحر في تونس اليوم.

511AC165-C038-4A2F-8C46-0930BBB64EBE
أنور الجمعاوي

أستاذ وباحث جامعي تونسي، فاز بالجائزة العربيّة للعلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة لتشجيع البحث العلمي (فئة الشباب) من المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. له عدة أبحاث وكتب.