هل يرتدي سابع مبعوث أممي إلى ليبيا قبعتين؟
مضى نحو نصف عام على استقالة الأكاديمي اللبناني غسّان سلامة، وما زال منصب مبعوث الأمم المتحدة إلى ليبيا شاغرا. ولا يخفى أن الولايات المتحدة الأميركية وراء هذا التأخير، إذ رفضت كل اقتراحات الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس، لشغل هذا المنصب. وإن كان رفضها الدبلوماسي الجزائري رمطان لعمامرة، يتعلق بتشكيك بعضهم في حياديته، فإن اعتراضها على وزيرة الخارجية السابقة في غانا، حنّا سيروا تيتة، يعود إلى سببٍ كان من المفترض أن يلقى ترحيبا من طرف غوتيريس وباقي أعضاء مجلس الأمن الدولي.
إضافة إلى ممارسة الوساطة والمساعي الحميدة، يطالب مجلس الأمن مبعوثه إلى ليبيا بإدارة الموارد المالية والبشرية لبعثة "أونسميل"
ولقد عزت تقارير إعلامية سبب الرفض الأميركي إلى اشتراط واشنطن إعادة النظر في ازدواجية المهام المنوطة بالممثل الخاص للأمين العام إلى ليبيا، الذي يُلزمه مجلس الأمن بأن يقوم بممارسة الوساطة في إطار رئاسته بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا (أونسميل). ما تريده واشنطن فصل المهمتين، بحيث يصبح شخصا يدير البعثة، في حين يؤدي شخص آخر دور الوساطة في ليبيا بشكل حصري، كما هو الشأن في سورية واليمن. وبغض النظر عن مدى جدّية واشنطن بشأن السلام في ليبيا، فإن هذا الاقتراح يضع الأصبع على مكامن خلل في طريقة عمل الأمم المتحدة منذ التسعينيات، إذ قلّلت من جهود الوساطة في دول، مثل ليبيا والعراق وأفغانستان، التي تطلق عليها اسم "مناطق ما بعد الصراع"، وأوكلت هذه المهمة الجسيمة إلى رؤساء بعثاتها السياسية الذين وجدوا أنفسهم أمام مهام متعدّدة وغير منسجمة، بل ومتناقضة في ما بينها أحيانا.
فإضافة إلى ممارسة الوساطة والمساعي الحميدة، يطالب مجلس الأمن مبعوثه إلى ليبيا بإدارة الموارد المالية والبشرية لبعثة "أونسميل"، والإشراف على عملها من أجل "تعزيز الحكم الرشيد والأمن والترتيبات الأمنية لحكومة الوفاق الوطني والمراحل اللاحقة في عملية الانتقال الليبي". البعثة مطالبة أيضا برصد أوضاع حقوق الإنسان، وتقديم الدعم للمؤسسات الليبية، وتقديم الخدمات الأساسية، والمساعدة الإنسانية عند الطلب. من شأن مجرّد التفكير في هذه المهام التي تراوح بين المستعصية وغير القابلة للتطبيق أن يسبّب الإجهاد الذي أصيب به المبعوث السابق غسان سلامة، بعد سنتين وثمانية أشهر من التخبّط في مهمة مستحيلة. فإذا كان دور الوسيط الأممي يحتّم عليه أن يجسّد القوة الناعمة لتوفير مناخ الثقة الذي من شأنه أن يُقنع جميع الأطراف المؤثرة في الصراع بالانخراط بجدّية في عملية السلام، فإن مهمته رئيسا للبعثة تجبره أيضا على رصد انتهاكات حقوق الإنسان وتوثيقها بهدف مساءلة بعض الأطراف لاحقا. هكذا يجعل مجلس الأمن مبعوثيه يلعبون دور القاضي والمدّعي العام، يحملون غصن زيتون في يد، وفي اليد الأخرى سيف العدالة. وقد كان غسّان سلامة حريصا على عدم تسمية المجرمين بأسمائهم، كي لا يصبّ الزيت على النار، وينسف جهوده من أجل السلام، لكن تصريحاته عن انتهاكات حقوق الإنسان كانت تغضب شركاء العملية السياسية، وتجعلهم يشكّون في حياده، فحين ذكَّر بأن قصف المناطق المدنية في ليبيا "قد يرقى إلى جريمة حرب"، وأقرّ بوصول مئات المسلحين من سورية إلى ليبيا، كان سلامة يقوم فقط بعمله رئيس بعثة أممية، تتسم بالشد والجذب بين عملية البحث عن السلام واحترام حقوق الإنسان.
ما أجهد الأكاديمي اللبناني هو ارتداؤه قبعتين ورقصه على حبلي الوسيط المحايد ورئيس بعثة منحازة لحكومة فائز السراج التي لا يمكن بأي حال أن تطلق عليها صفة "الوفاق"، فقد جعل مجلس الأمن الحيادية والانحياز وجهين لعملة واحدة، وطلب من أطراف الصراع في ليبيا أن يثقوا بوساطة بعثة أممية أصبحت منذ العام 2015، طرفا في الصراع الذي ينخر ليبيا. وما يعرف بـ"اتفاق الصخيرات"، تبلور في ظل دبلوماسية الموعد النهائي، ولم يحظ بالحد الأدنى من توافق الأطراف المتنازعة والمؤثرة في النزاع، بمن فيهم اللواء المتقاعد خليفة حفتر، الذي كان وما زال يؤمن بالحل العسكري.
قد تتعارض ممارسة القوة الناعمة بين الفرقاء الليبيين مع مهمة رصد انتهاكات حقوق الإنسان وتوثيقها بهدف مساءلة بعض الأطراف لاحقاً
وبعد أن رفض مجلس النواب منح الشرعية لحكومة السّراج، تكفّل مجلس الأمن بدعمها ودعم مليشياتها ضد خصومها في طرابلس وبنغازي وباقي أرجاء ليبيا، فكيف لرئيس بعثةٍ أصبحت طرفا في الصراع أن يكون وسيطا محايدا؟ معادلة مستحيلة وقف عليها سلامة أكثر من مرّة، خصوصا بعدما اصطدم بحقيقة أكثر بشاعة، أن جلّ الأعضاء الخمسة الدائمين في مجلس الأمن كانوا يساندون حكومة الوفاق على الورق، ويدعمون خصمها، حفتر، على أرض الواقع. هذا ما كشفه في مقابلة أجراها مع مركز الحوار الإنساني، وعبّر فيها عن الشعور بالغضب الذي انتابه، حين أخبره حفتر، في مكالمة هاتفية، بأن غالبية أعضاء مجلس الأمن منحته الضوء الأخضر لتنفيذ هجومه على طرابلس. شعر حينها بـ"طعنة في الظهر"، وحزنه لنفاق وانعدام الضمير لدى هذه الدول العظمى التي كانت تشدّ عضده، وهي تتآمر لإفشال كل جهود السلام والمصالحة التي استنزفت صحته. وقف سلامة على حقيقة مجلس الأمن، المخادع الذي يحاول إيهام الشعب الليبي بأنه يبذل قصارى جهده لإحلال السلام، ومساعدته على إصلاح ما خرّبه هو بقراراته، في حين أنه يوسّع دائرة الدمار ويطيل أمد الحرب.
ارتداء قبعة واحدة، والقيام بدور الوساطة بشكل حصري، بعيدا عن مهام بعثة "أونسميل"، من شأنه أن يسهل مهمة الوسيط الأممي، لكن هذا التغيير لن يجلب السلام إلى البلاد. مشكلة ليبيا وباقي دول المنطقة ليست في المبعوثين الأمميين، بل في من بعثهم، في مجلس الأمن، والدول الخمس دائمة العضوية فيه تحديدا، التي حولت المنطقة بأكملها إلى سوق لبيع أسلحة الدمار الشامل، وساحة حرب هوجاء حَطَبُها الشعوب العربية. المشكلة في تلك القوى الكبرى صاحبة "حق الفيتو"، التي دمّرت ليبيا مثلما خرّبت العراق، حين اعتمدت القرار 1973 الذي أجاز استخدام القوة لإسقاط النظام الليبي بحجّة "حماية المدنيين"، ثم انحرفت بمسار الحراك الشعبي السلمي، حين وضعت السلاح في أيدي ثوّار متطرفين، وقذفت بهم نحو العنف المسلح والحرب الأهلية.
ارتداء قبعة واحدة، والقيام بدور الوساطة حصرا، بعيدا عن مهام بعثة "أونسميل"، يسهل مهمة الوسيط الأممي، لكن هذا التغيير لن يجلب السلام
حتى وإن أرسل مجلس الأمن وسيطا سابعا وثامنا وتاسعا بقبعةٍ واحدة، وبكفاءة غسّان سلامة ونزاهته، فلن يفلح في إحلال السلم، ما لم يكفّ عن منح شرعية وهمية لحكومة السّراج، والتدخل في شؤون البلاد لحماية أطماع "الخمسة الكبار" في نفط ليبيا وغازها وسوقها وموقعها الاستراتيجي، ولحماية أوروبا من هجرة شبابٍ يائس، جلّه عربي، أفريقي ومسلم. حوّل هذا المجلس البلاد إلى حلبة حربٍ بالوكالة، تتبارز فيها روسيا وأميركا وغيرهما عبر حلفاء ليبيين لا يأبهون بمصلحة الوطن. الحلّ في ليبيا بيد الليبيين، متى قرّرت النخب السياسية والعسكرية التخلي عن الاستقواء بالقوى الأجنبية وتغليب مصالحها الشخصية وحساباتها الحزبية الضيقة على وحدة البلاد.