هل هو الربيع الكردي؟
ثمة قناعة عامة لدى الكرد بأن ما يجري في المنطقة سيغير من خريطتها الجيوسياسية والاقتصادية. ومع هذه القناعة يرون أنهم أمام فرصة تاريخية لنيل حقوقهم القومية، وربما إقامة دولة مستقلة، بعد أن حرمتهم الاتفاقيات والمصالح الدولية منها عقب الحرب العالمية الأولى، وذلك خلافا لدول المشرق العربي التي ولدت من رحم اتفاقية سايكس- بيكو. وعليه يمكن فهم رفع الكرد من سقف مطالبهم القومية على وقع (الربيع العربي): كرد العراق في وضع شعار حق تقرير المصير على الطاولة، وكرد سورية في طرح شكل من أشكال الحكم المحلي، وكرد تركيا في العودة إلى طرح شكل موسع للحكم الذاتي يقترب من الفدرالية، وكرد إيران في محاولة صوغ برنامج مطلبي، رغم صعوبة ذلك بسبب المركزية الشديدة للنظام، علما أن كرد إيران هم أول من أعلنوا عن إقامة دولة كردية في العصر الحديث، وأقصد هنا جمهورية مهاباد التي أقيمت بدعم من الاتحاد السوفييتي عام 1946 ولم تصمد سوى أقل من سنة، قبل أن يدخل الجيش الإيراني إلى عاصمة الجمهورية ويعدم رئيسها القاضي محمد مع كبار قادته.
في الواقع، رغم اختلاف ظروف الحركة الكردية من جزء إلى آخر، وحتى اختلاف البرامج السياسية داخل الجزء الواحد، إلا أنه يمكن القول إن (الربيع العربي) فجّر الوعي القومي الكردي من جديد، على شكل السعي إلى تحقيق الهوية والحرية معا، وفي الوقت نفسه الاستفادة من انهيار أنظمة وتفكك منظومات إقليمية لصالح الهويات المحلية المقموعة والمقصية بفعل هذه الأنظمة والمنظومات. كل ذلك مع بروز دور كبير للتاريخ والجغرافية والمجتمع في حركة الشعوب ووعيها بأهمية قضية الحرية. وعليه فإن مشهد الصعود الكردي يبدو وكأنه أمام ثورة اختمرت وبدأت تخرج من فوهة التاريخ والجغرافية إلى سدة المشهد السياسي على شكل حلم قومي ظل يدغدغ الوجدان الكردي. وهو حلم قديم راود الكرد منذ انهيار الدولة العثمانية بعد أن انهار هذا الحلم مطلع القرن الماضي على مذبح النفط والمصالح والاتفاقيات الدولية (سايكس بيكو- لوزان..) ليعيش بعدها الكرد في الدول التي يتواجدون فيها، يسعون إلى هوية قومية حرموا منها، تارة جراء الأيديولوجية القومية السائدة، وأخرى باسم الوحدة الإسلامية.
التطورات الجارية على جبهة الوعي القومي الكردي أدت إلى تشكيل ما يشبه مرجعية سياسية كردية واحدة يقودها عملياً إقليم كردستان العراق، وهي مرجعية باتت تبحث عن إيجاد استراتيجية موحدة للقضية الكردية لجهة توحيد الخطاب السياسي، وتوطيد العلاقات بين القوى والأحزاب الكردستانية، وكيفية التعامل مع أنظمة الدول التي يتواجد فيها الكرد، وبناء علاقات مع الدول والشعوب والحركات، والسعي للتوصل إلى حل سلمي للقضية أو القضايا الكردية بعيداً عن سياسة الصدام. وقد جعل هذا المسار الذي يحظى بدعم دولي من الكرد لاعبا إقليميا يحسب لهم الحساب في الصراعات الإقليمية والدولية، خاصة بعد أن اتضح أهمية دورهم في حرب التحالف الدولي ضد داعش في سورية والعراق.
لعل اللافت في علاقة تطورات (الربيع العربي) بظهور الربيع الكردي، ثلاثة عوامل عكسية أساسية:
1- إذا كانت (ثورات الربيع العربي) بعثت حالة من الانقسام والتصدع في المجتمعات العربية، فإنها بالنسبة للكرد بعثت حالة من التقارب والوحدة والمصير.
2- إذا كانت هذه الثورات نجحت عربياً في إيصال الإسلام السياسي إلى سدة المشهد العربي رغم تراجعه لاحقا، فإنه كردياً عمق الشعور القومي والإدراك والوعي بالهوية الوطنية الكردية.
3- إذا كانت الثورات العربية شتتت وأضعفت المكانة الرسمية للعرب في العلاقات الدولية، فإنها فتحت الطريق أمام مثل هذه المكانة للكرد.
وعلى المستوى الكردي، فإن الصعود القومي خفّف من حدة الخلافات والاختلافات الأيديولوجية والسياسية بين الأحزاب الكردستانية. فالحركات الكردية، ورغم الخلافات الأيديولوجية والسياسية الكثيرة بينها، باتت تجد نفسها مندفعة للعمل معا لتحقيق الحلم القومي، كما أن التطورات الإقليمية العاصفة أنهت مرحلة استخدام الأنظمة الإقليمية للكرد ضد بعضهم البعض، كما حصل مرارا في تسعينيات القرن الماضي (بين الاتحاد الوطني الكردستاني والحزب الديمقراطي الكردستاني ومن ثم بين الحزبين وحزب العمال الكردستاني). كما أن اختلاف الظروف بين الأجزاء الكردية لم يعد عائقا في وجه التقارب الكردي– الكردي الحاصل، على الرغم من اختلاف الظروف والمعطيات. وما وصول قوات البشمركة الكردية إلى كوباني قادمة من أربيل إلا تعبير عن هذه المرحلة الجديدة.
في الواقع، ما سبق لا يعني أن طريق الكرد بات مفروشا بالورود، فثمة تحديات كثيرة تنتظرهم. ولعل التحدي الأكبر هنا يتعلق بكيفية توفيق الكرد بين مطالبهم القومية والسيادة الوطنية للدول التي يتواجدون فيها، في كيفية تحقيق تطلعاتهم القومية سلماً من دون الصدام مع الأنظمة والشعوب الأخرى، في كيفية جلب اعتراف إقليمي ودولي بكيانهم وتطلعاتهم القومية.
وفي نضال الكرد لنيل حقوقهم أيضا، ثمة إشكاليات تتعلق بالخلط الذي ظهر في الخطاب السياسي الكردي، بين التطلع إلى الحرية والديمقراطية والتخلص من أنظمة استبدادية وبين المطالبة بالحقوق القومية. إذ يبدو مجمل الحراك الكردي الجاري قوميا لا أكثر، وهو ما أدى إلى بروز مخاوف لدى أكثر من طرف إزاء المطالب القومية الكردية؛ سواء من الأنظمة أو المعارضات. وهذه نقطة خلاف بين الكرد وغيرهم من القوميات الأساسية في المنطقة كالعرب والترك والفرس. فالكرد يرون أنه لا حرية حقيقية لهم من دون الاعتراف بحقوقهم القومية، مثلهم مثل القوميات المذكورة، فيما معظم الدول والقوى في المنطقة تنظر إلى القضية أو القضايا الكردية في إطار ديمقراطي يقتضي الاعتراف بهم دستوريا وعبر عملية سياسية وتنموية لا أكثر.
ولعل ما يشجع الكرد على التمسك بأولويتهم القومية تلك القناعة الكردية بأنه لم يعد باستطاعة أي نظام القضاء على تطلعاتهم القومية بالقوة العسكرية أو منطق الإلغاء والإقصاء، وأن الظروف الحالية وفّرت فرصة تاريخية لتحقيق هذه التطلعات، وأن النضال السلمي والوعي بالحرية والديمقراطية وفّرا لهم التأسيس لمرجعية قومية موحّدة تحدد استراتيجية القضية في المرحلة المقبلة. وعليه فثمة من يرى أن القرن الحادي والعشرين بات ينبئ بمثل هذا الحلم. فالكرد باتوا يستعيدون وعيهم القومي، ويمتلكون المقومات الاقتصادية والسياسية والبشرية والاجتماعية والعسكرية التي نقلتهم من مجرد تنظيمات عشائرية وعائلية إلى قوى سياسية محترفة تعرف كيف تدير السياسات والأمور على الأرض. كما أن الجغرافيا السياسية الغنية بالنفط والغاز والأدوار السياسية باتت تجلب لهم المصالح الدولية.
في الواقع، بغض النظر عن الجدل الجاري والإشكاليات الكثيرة، إلا أنه يمكن القول إن (الربيع العربي) فجّر الربيع الكردي سياسة وجغرافية وهوية، ووضع الكرد أمام حلمهم التاريخي.