هل للوسطية مدرسة؟

10 مارس 2016
صياغة الوسطية مدرسة فكرية واجبٌ لا يحتمل التأخير(فرانس برس)
+ الخط -
انصب الخلاف بين أفلاطون وتلميذه أرسطو، أساساً، على المنهج البحثي التفكيري في مقاربة الحقيقة والبحث عنها.
أفلاطون آمن بالعقل، والتحليل، والاستنباط، كما عكست ذلك الحواريات (الديالوغات) التي كتبها، وهو يبدأ بسؤال كبير مثل "هل بالإمكان تعليم الفضيلة؟"
وبعد جدل بين أستاذه سقراط (ومريديه) يصل إلى استنتاج، إن الفضيلة يمكن تعليمها، ثم يعود في النصف الثاني ليصل إلى نتيجةٍ معاكسة لذلك.
أما أرسطو فقد آمن بالتجريب، واستخدام الحواس من أجل الوصول إلى النتائج. ولذلك، تبنى المنهج العلمي المختبري، أو الأسلوب الاستقرائي.
وسواء آمنا بمنهج الاستنباط، أو بمنهج الاستقراء، فإن كليهما نهج علمي له أركانه، وأساليبه. وهنالك من يؤمن أن مزيجاً من الاثنين قد يكون السبيل الأقوم.
ولذلك، يجب أن يؤدي الأسلوب العلمي الموضوع إلى حلولٍ منسجمةٍ مع قوانين الكون والطبيعة. وأن الاستمرار في البحث والتطوير واجب، لأن حقائق الحياة، كما يقول بعضهم، تحتاج بحثاً أقرب إلى تقشير البصل، حيث نتعلم بإزالة القشر والطبقات الأقل جودةً، حتى نصل إلى اللب، حيث الحقيقة، والتي ربما لا نصل إليها أبداً...
وفي الفلسفات التي سبقت أرسطو، قال زينافون: إن من البديهيات الأساسية في الحياة أن يكون لكل شيء في الحياة نقيض واحد، وأن الشيء ونقيضه لا يجتمعان معاً. وإذا صحّت هذه البديهية، فلا بد أن نستنتج أن نقيض الأبيض هو اللاأبيض، وليس الأسود، وأن نقيض الجمال هو اللاجمال وليس القبح. ولذلك، فإن الجمال واللاجمال لا يجتمعان معاً.
نحن نتكلم عن التطرف نحو اليمين، والتطرف نحو اليسار. ويمكن لليمين أن يجتمع مع اليسار، وأن يتقاربا بحسب بديهية زينافون، فاليمين واليسار يتعايشان، بل ويغذيان بعضهما بعضاً.
ولتشرح الصورة، تخيل أنك تمسك بيديك خيطاً، حيث طرف الخيط الأيمن بيدك اليمنى، وطرفه الأيسر بيدك اليسرى. ستلاحظ أن الخيط الذي تمسكه على شكل خط مستقيم يظهر أن اليمين في طرف، واليسار في الطرف المقابل، وأن الوسط نقطة بينهما. وبمعنى آخر، الوسط هو حالة استنتاجية لوجود طرفين. ولكن، إذا قربت يديك من بعضهما بعضاً، وصار طرف الخيط اليمين قريباً من الطرف اليسار، فإن المنتصف يبدو النقطة الأبعد عن كليهما.
ولذلك، إذا قلنا إن نقيض الوسط هو اللاوسط، يصبح كل من طرفي الخيط، يمينه ويساره، على نقيض من الوسط: ويمكن لنا أن نتخيل الوسط ضلعاً مثلثاً، والضلعين الباقيين هما اليمين واليسار، أو أن نقول إن الوسط واليمين واليسار هما ثلاث دوائر متقاطعة، تشكل بتقاطعها حلقة مشتركة تمثل شيئاً من كل جانب.
ويشير القرآن الكريم إلى الأمة بقوله "وكذلك جعلناكم أمةً وسطاً لتكونوا شهداء على الناس، ويكون الرسول عليكم شهيداً (البقرة 143)، لكن الأدبيات الفقهية استعملت تعابير تركز على الطرفين، مثل القاعدة الشرعية "لا ضرر ولا ضرار"، أو القول "لا غلو ولا مغالاة"، أو القول "لا إفراط ولا تفريط"، ما يجعل ضمناً تعريف الحالة المرغوبة هي حالة الوسط بين هذا وذاك. ويؤكد ذلك أحياناً الآيات القرآنية التي تحض على الاعتدال في السلوك، مثل "ولا تجعل يدك مغلولةً إلى عنقك، ولا تبسطها كل البسط"، أو "والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا، وكان بين ذلك قواماً".
ولقد رأينا كتاباً ومحللين ينظرون إلى "الوسطية"، أو التوسط، على أنها معدل، أو حالة هلامية غير مثيرة بين طرفين أو أكثر. وهم لا يحترمونها، ويكادون يتهمونها باللاموقف، أو اللاحالة. ولذلك، وجب البدء في العمل على وضع إطار ومحتوى فكري للوسطية، يجعلها ديناميكيةً ذات أبعاد واضحة، وحدودٍ على خريطة الفلسفات الأخرى.
في علم الاقتصاد، تعلمنا أن الوسطية هي حالة التوازن بين القوى المختلفة. فتوازن المستهلك يعني الحالة الوسط المثلى التي توفق بين ما هو مفروض عليه من أسعار وما هو متاح له من دخل وأفضليات. وتوازن الاقتصاد يعني وصوله إلى حالة التوفيق بين قوى العرض والطلب. ولذلك، ركّز الاقتصاديون الكلاسيكيون على مفاهيم "التوازن الطبيعي، السعر الطبيعي أو العادل" متأثرين بالأفكار الدينية.

وفي علم البيئة، نرى أن التدخل في تركيب الأشياء، حسب اختيارات الطبيعة، لإشباع رغبةٍ ما أو تلبية حاجة ما هو إفساد للطبيعية، ومن ثم التلوث، والأمراض، وفساد في الهواء، والماء، والتراب. وكل مكوّنات الحياة الأساسية.
ولذلك، تناولت العلوم الاجتماعية والإنسانية التوازن على أنه حالة مثلى في الوسط، لكنها حالة "نظرية وغير مستقرة ديناميكياً، لأن القوى المؤثرة عليها في حركةٍ دائبة مستمرة. فالوسطية والاعتدال والتوازن مفاهيم متقاربة، تعكس سعي الإنسان وبحثه عن الحالة الفضلى أو المثلى، لكنها عنصر تابع يتقرّر بسلوك ظروف خارجة عنه.
وفي علم الإحصاء، تعلمنا أن المعدل يمكن التعبير عنه بمقاييس كثيرة لا تنتهي. ويخلط ناسٌ كثيرون بين مفهومي "المعدل" والمتوسط الحسابي، وعندما تجمع علامات الطلاب وتقسم المجموع على عدد الطلاب، نخرج بمتوسط حسابي، نسميه معدل علامات الطلاب هو كذا.
ولكن كلمة معدل تعني "الرقم الممثل للمجموعة". وقد يكون هذا المعدل هو المتوسط الحسابي، أو الرقم الوسط أو الوسيط الذي يتساوى عدد الذين فوقه مع عدد الذين أقل منه، أو هو الرقم الذي يتكرّر.
وهنالك مفاهيم أخرى، كالجذر التربيعي لمربع كل الأرقام. هذه كلها طرق للبحث عن الحالة العاكسة، والممثلة للمجموعة قيد البحث، وهي التي تمثل الوسط.
وهكذا نرى أن مختلف العلوم توصلك إلى حالةٍ واحدة، وهي أن أسلوب تفكيرنا ينصب في البحث عن نقطةٍ أو مساحةٍ متوسطةٍ أقرب ما تكون إلى إيجاد حالة توافق مجتمعي. ولكن، يجب أن نتذكّر أن الوسطية يمكن أن تكون حالة خاصة بمواصفات ومعايير ومفاهيم خاصة بها، ويمكن استخراج الأدبيات التي تضع توصيفاً لكل هذه المفاهيم وطبيعتها من منظور الوسطية. وأن تؤكد على ديناميكية الوسطية، فهي حالة مستمرة التغير. ولكن، ضمن حدود معقولة.
في هذا الزمان الذي يتداول الناس فيه مفاهيم ازدواجية متنافرة، مثل "التفكير والتكفير"، "الحق والباطل"، "نحن وهم"، "الثورة والفتنة"، "الاعتدال والتطرف"، صار المطلوب هو البحث عن صيغةٍ وسط نعرفها، ونجعلها مدرسة، وفيها مرجعيات واضحة، تساعدنا في الحكم على الأمور.
وعودة إلى من كتبوا عن آلية العقل والفكر. فهي عند الطبيب وعالم النفس البريطاني، دي بونو، تعني "القدرة على التعامل مع المجتمع، والتفاعل مع مؤسساته وتشريعاته وحدوده وفرصه". أما عند الدكتور محمد عابد الجابري فهي "حالة من قبول الفروق أفقياً بين الناس في مختلف الأماكن، وعمودياً بين الناس عبر الأحقاب المتعاقبة".
وفي كتاب أحمد العناني وكاننغهام "التاريخ المبكر لعرب الخليج"، يتساءل المؤلفان "لماذا كان أهل شرق الجزيرة العربية آخر من أسلم، وأول من ارتد، وأعظم من قاتل، وتبنى أكثر المذاهب إصراراً على نقاوة الدين من المؤثرات الخارجية؟". ويثير ابن خلدون في مقدمته أسئلةً كثيرة عن بناء الحضارة، ومن هم البناة من غيرهم؟
نحن بحاجة في الوطن العربي إلى المصالحة مع الذات، وبناء نموذج وسطي واضح المعالم ما أمكن، وفتح باب الاجتهاد، ودعم آلية التفكير والبحث، بشقيهما الاستنباطي والاستقرائي. والذين لا يتغيّرون مع تغيّر الظروف يتغيرون إلى حد يفقدون معه حاضرهم وتاريخهم وجغرافيتهم، بل ووجودهم.
صدرت إعلاناتٌ مهمة كان جديدها إعلان مراكش، وقبلها رسالة عمّان، ورسالة الأزهر الشريف، وكلها تصب في الخطاب المعتدل، وتقدم للوسطية منهاجاً. وإذا كانت الوسطية ستأخذ طريقها نحو اجتذاب الشباب، ودغدغة عقولهم وعواطفهم، لإبعادهم عن التطرف يميناً أو يساراً، فإن صياغة الوسطية مدرسة فكرية باتت واجباً على المفكرين والمجسرين بين الناس وصناع القرار. وهذا واجبٌ لا يحتمل التأخير.



اقرأ أيضا: هل تعلمنا مما جرى؟
المساهمون