هل فقد المثقف دوره؟

13 أكتوبر 2014

سؤال دور المثقف العربي ما زال مطروحاً

+ الخط -

تحدثوا، قبلنا، خصوصاً في خمسينات القرن العشرين وستيناته، وبعضهم امتدّ بالحديث عن "الدور التاريخي للمثقف العربي" إلى سبعيناته، فجاءت خلاصة الجواب عن "سؤال الدور" هذا في: العمل من أجل نظام عربي جديد، ديمقراطي الواقع والممارسة، وتوعية الجماهير بحقوقها وواجباتها الوطنية، فضلاً عن إذكاء روح الصراع مع الاستعمار، والرجعية، التي عدّوها من أعتى صنائعه، ونشر الفكر التقدمي، وفي المقدمة منه ما ينبع من التوجهين القومي والاشتراكي.. وما يُحتّمه هذا كله على المثقف من معايشةٍ لمشكلات مجتمعه، وتطلعات إنسان هذا المجتمع. ويجد من "أَرّخوا" هذا الدور الذي رأوا أن على المثقف أن ينهض به، أن هذا التوجّه، كانت تباشيره الأولى قد بدأت مع النصف الثاني من القرن التاسع عشر، بفعل تأثّر بعض المثقفين، في ذلك الحين، بعصر الأنوار الأوروبي. ويزيد هؤلاء المؤرخون، وهم يتابعون حركة الثقافة والفكر، وتكوين المثقف في القرن العشرين، أن التأكيد من هذا المثقف تبلور ليأخذ صيغةً، شكلت/ أو تشكَّل منها البعد الفعلي لواقع نهضوي جديد.

وبتبلور صيغة هذا "الدور" مع تصاعد حركات التحرر العربي، وفك الارتباط بالاستعمار، قال هذا المثقف (العضوي تحديداً) ببناء كيان فكري للأمة وإنسانها.. وأثار من الأسئلة ما جعل الأهداف واضحة، والتوجهات متبلورة، فكان "دوراً ريادياً".


غير أن هذا "الوهم" لم يستمر طويلاً، إذ شهد وضعاً آخر، في ظل ما عُرفَ بـ"الأنظمة الوطنية" التي تزعمتْ ما رسم هذا المثقف بفكره الجديد من توجهات. فهذه الأنظمة التي تبنَّت، عن زيف وإيهام، ما عُرفَ بـ"المشروع القومي"، بكل ما حمل من شعارات "البناء النهضوي الجديد"، كانت قد أوهمت هذا المثقف، كما أوهمت رجل الشارع، بما منحت نفسها من دور سيتفكك، ويتلاشى، مع تحولها إلى "أنظمة سلطوية"، تراوحت بين "المركزية" و"الحكم المطلق".

وبديل أن تعزز ما كان يمكن أن يحصل من تعاضد بين "عملها/ سياستها" و"مشروع" هذا المثقف، وجدناها تسعى إلى استيعابه، وإعلان الإنابة عنه في ما رسم لنفسه من دور، ليتم تحويله، على يد هذه السلطة، من "مثقف رائد" إلى "كاتب تابع".. وفي مرحلة لاحقة، ستعمل هذه الأنظمة على إيجاد "مثقفيها/ كتّابها" الذين يؤكدون ما ترى وبه تقول، ويعزّزون ما تتخذ من خطوات. وهنا، لم يبقَ من حقيقة لما يقال، أو تجري الدعوة إليه، مكتفية بالتسمية.. أما المضمون، فستبدده الشعارات الفضفاضة.. فإذا بهذا المثقف، وقد وجد نفسه مصادر الإرادة، يرتضي لنفسه أن يكون "مكملاً" لدور النظام في ما يتقدم به إلى الواقع من "أطروحات زائفة".

من هنا، بدأت "الشخصية التاريخية" لهذا المثقف تضعف، وتتحول "أطروحاته" من "السؤال" الذي يفرض نفسه واقعاً إلى التبعية لما تضعه، أو تقول به السلطة ـ النظام من "جواب"، ما جعل بعض من تبقى خارج اللعبة أن يثير قضية "أزمة المثقف العربي" التي بدأت من غياب الأسئلة، أو تغييبها.

أمام هذه الحال، غدا السؤال عن "الثقافة" و"المثقف" يفتقد معايير الجواب الحقيقية... فإذا كانت الثقافة، بمعاييرها الفعلية، إغناء العقل وإنماءه تنويرياً، فإن "عملية الإغناء" هذه ستختلف، محتوىً وغايةً، لتُصبح "إغناءً" بوقائع تواريخ متخلفة، وعقائد جامدة.. يصاحبها إنماء واضح للأمية، واستيعاب ما يمكن أن نطلق عليه تسمية "المثقف الشائع" الذي يُطفئ مع هذه الأنظمة ما قد يشع من هنا أو هناك من أنوار.

قد يسأل سائل: وأين ذهبت تلك "المعاني الكبرى" التي جعلت من واقع الخمسينات والستينات، وحتى السبعينات من القرن العشرين، واقعاً يموج بحراكها الحي: من الماركسية والفكر الاشتراكي، إلى التيار القومي والفكر التقدمي، فالوجودية في عمق حضورها الأدبي والفلسفي، بما جعل من ذلك "الواقع الذي كان" واقع صراع فكري بامتياز، قاد إلى التنامي والنضج، وليس إلى "التصفيات"، كما سيكون الأمر عليه من بعد. ففي ذلك "الأمس القريب" جداً، كانت المعاني التي تُستحدث سرعان ما ينضاف إليها ما يُغنيها من معانٍ ورؤية، مصدرها: الشخصية الجديدة" لكل من الشاعر والفنان والكاتب.. والمفكر، هو الآخر.

فقد كانت ألفة اللغة، والألفة مع اللغة، والتواتر المتحقق، انسجاماً في الكلام، مكتوباً أو مسموعاً، وللرؤى المفجرة لما في واقع المجتمع من طاقات خلاقة تُصاغ، أو يصوغها مبدعوها شعراً، وقصة، ورواية، وفنوناً تشكيلية، وكتاباتٍ تستحدث أنماطها الجديدة، كما استحدثت زمنها الذي هو "زمن ألفة الانسان".

يذهب هذا كلّه، لنجد "الحراك الطائفي" هو ما ينمو، اليوم، على أرض هذا الإنسان الذي يفزعه ما يرى ويسمع، وتسود "الرؤية المغلقة" على نفسها (من دون الواقع) هي ما يؤلف "وحدة ما يقال". وبديل أن تستكمل الحياة شروط وجودها الحضاري، مع بدايات القرن الحادي والعشرين، كما كان الإنسان المنتظر لهذا القرن يأمل، إذا بالعصر يكبو، وتكبو الحياة بالإنسان معه، فتنهار، وعلى مرأى منه، معاني الوجود الكبرى، وتتحول بحار الفكر "مستنقعات طائفية"، وينحدر بعضهم من قمة ما لحضارة بلده من مجد إلى أن يرجو "المحتل" الرضا، أو ينتظر منه "المكرمة".

إن استجابة المثقف لرجل السلطة، على النحو الذي تم في ربع القرن الأخير، أفقدَت هذا المثقف شخصيته الثقافية المؤثرة، وعرّضت وضعه للتراخي والتفكك، فتلاشى دوره تلاشياً شبه كليّ في الواقع الذي ينتمي إليه.

وإذ يذكر "جيل الرواد" أن "معلميهم" قد أودعوا أمانة في أعناقهم، تمثلت في الحرص والعمل على تحقيق شعار "الأمة الواحدة" الذي رفعوه، ولم يسعفهم الزمن على تحقيقه.. نتساءل، اليوم، عما بقي في ذاكرة هذا المثقف عن تلك الأمانة؟ السؤال نفسه أثاره رائد من تلك المرحلة، امتد به العمر، ليظل حاملاً السؤال. وحين تطلع في الواقع، قبل أن يرحل عنه، وجد أن "الكلمة صداها، تردده صحارى البشر، فتبتلعه رمالها".
 
 
 


 

7D7377FF-D2B6-4FE4-BFE1-A2312E714BB6
ماجد السامرائي

كاتب وناقد باحث عراقي