15 نوفمبر 2024
هل جُنَّتِ السعودية؟
لعل السؤال الذي يطرحه عنوان هذا المقال متأخر كثيراً عن أوانه، ولعل إجابته أضحت بدهية لا تحتاج كثير فلسفة. نعم، لقد فقدت السعودية عقلها وصوابها كدولة، وهي اليوم تدار بمنطق المليشيا والعصابات، وهي إن لم تُجر تعديلاً سريعاً وجذرياً في مسارها، فإن كارثةً توشك أن تحلَّ بها، وهذا ما لا يريده أحد لبلاد الحرمين الشريفين. أعلم أن ما سبق ينطلق من نتيجة وَحَتْمِيَةٍ قبل وضع مقدمة وسياق لهما، وهذا متعمّد هنا، فلم يعد هناك متّسع متاح من الوقت لتدارك الخطر على المملكة، وعلينا، نحن العرب جميعاً، إن لم يتم حقن بعض العقلانية والمنطق في السياسة السعودية، داخلياً وخارجياً. وأيُّ حساباتٍ لدى تيار وليِّ العهد السعودي، محمد بن سلمان، أن تعزيز قبضته على الحكم بطريقة متوحشّة، واصطناع أعداء، داخليين وخارجيين، سيمكنُّ له، هي مجرد أوهام.
تنطلق المقدمة هنا من لغز اختفاء الصحافي السعودي، جمال خاشقجي، بعد أن زار قنصلية بلاده في إسطنبول لاستخراج أوراق قانونية خاصة به. لا يزال مصير خاشقجي مجهولاً، وثمّة حديث متضارب، حتى كتابة هذه السطور، بين السلطات التركية والسعودية حول ما إذا كان محتجزا في مبنى القنصلية أم أنه غادرها، كما أن ثمّة قلقا يساور أصدقاء الرجل ومحبيه من أنه قد يكون اختطف ونقل إلى الرياض. على أيِّ حال، قد لا ترى هذه السطور النورَ إلا وقد كُشِفَ لغز اختفاء خاشقجي، والذي نتمنّى أن يعود إلى أهله ومحبيه سالماً آمناً. لكن، حتى وإن انكشف سرِّ اختفاء الرجل وظهر سالماً، فهذا لا يعني أن التيار الذي أحكم قبضته على القرار في المملكة قد عاد إليه عقلُه، فقضية خاشقجي ما هي إلا حلقة في سلسلة طويلة من السياسات الكارثية التي تتبعها المملكة منذ اعتلاء الملك سلمان العرش، مطلع عام 2015، وصعود نجم ابنه معه، والذي أصبح ولياً للعهد في يونيو/ حزيران 2017، بعد انقلاب قَصْرٍّ على وليِّ العهد حينها، محمد بن نايف.
بدأ سلمان عهده بإعلان الحرب على الحوثيين الذين اجتاحوا اليمن، وسيطروا على عاصمته
صنعاء. في بداية الحرب، التي عُهِدَ لمحمد بن سلمان قيادتها، باعتباره وزير الدفاع، كان أغلب اليمنيين والعرب معها، وأيّدوها على أمل إنقاذ اليمن من الوقوع في براثن النفوذ الإيراني، على غرار العراق وسورية ولبنان. ولكن مسار الحرب وطريقة إدارتها قلب أغلب اليمنيين والعرب ضدها. اتضح أن السعودية وحليفها الإماراتي ليسا معنيين بتحرير اليمن، بل بتدميره، وتقسيمه، وتفتيت نسيجه الاجتماعي، وذلك للسيطرة على ثرواته وجزره وشواطئه وموانئه الاستراتيجية. أنشأت الدولتان مليشيات تابعة لهما، جعلت من استهداف "الشرعية" التي باسمها تدخلا في اليمن هدفاً لهما، فكانت النتيجة إضعاف تلك "الشرعية"، وتمزيق المعسكر المناهض للحوثيين، بل وإعلان الحرب على بعض مكوّناته، كما حزب التجمع اليمني للإصلاح. وهكذا انتهى اليمن اليوم بلدا يعاني مجاعة، وعادت الأوبئة والأمراض لتغزوه، وسحقت الطائرات الحربية السعودية والإماراتية شعبه وأطفاله، في حين تعرف الحرب مع الحوثيين مأزقاً حقيقيا، حيث أصبحت السعودية نفسها، هدفاً للهجمات الصاروخية والبرية والبحرية. قد يقول بعضهم إن تدمير اليمن فيه مصلحة لابن سلمان والإمارات، لكي يُحْكِما سيطرتهما على ما يطمعان فيه. كان يمكن أن يكون هذا صحيحا لو أن السعودية لم تتورّط في حرب استنزاف طويلة الأجل، التهمت احتياطاتها النقدية، وَكَشَفَت أمنها القومي، وليس فيها أفق للنصر. السعودية في اليمن اليوم كالحيوان الذي تعتاش طفيلياتٌ في جسده على دمه. الطفيليات في هذه الحالة هي الإمارات.
ليس استغلال الإمارات السعودية وركوبها، تحت ابن سلمان، مقتصرا على الساحة اليمنية، فقد رأينا ذلك أيضا في دفع ابن سلمان إلى حصار قطر، في يونيو/ حزيران 2017، وفي التصعيد مع تركيا، وإعلان الحرب على الإخوان المسلمين. وهذا لا يعني أن السعودية، قبل سلمان وابنه، كانت نظيفة اليدين، فقد تورطت في الثورات العربية المضادّة، ومحاولة التماهي مع إسرائيل لخنق روح التغيير في المنطقة واحتواء إيران. لكن السعودية، قبل عهد سلمان وابنه، كانت قائدة، أو شريكة في القيادة في المنطقة، في حين تحولت، في هذا العهد، إلى تبعٍ للإمارات، وكاسحة ألغام لسياساتها. الأدهى أن السعودية الدولة أصبحت رهينة طموحات ابن سلمان في المُلكِ وجنوحه، وهو هنا لا يشذّ عن رأيِ ملهمه وليّ عهد أبو ظبي، محمد بن زايد. مرة أخرى، قد يجادل بعضهم هنا، وماذا في ذلك؟ فمن أجل الملك يهون كل شيء. المشكلة أن السعودية، تحت حكم سلمان وابنه، تحولت إلى مقطورة للإمارات، بدل أن تكون هي القاطرة، كما كان الحال عقودا طويلة. أبعد من ذلك، لم يكن تسويق ابن سلمان في واشنطن من دون ثمن، وها هو دونالد ترامب يذكّر السعودية وملكها ووليّ عهده بالثمن مرة بعد أخرى: ادفعوا مزيداً من المال، وإلا! يخطئ من يظن أن نفوذ الرياض وأبو ظبي في المنطقة هو نتيجة عناصر قوة ذاتية، بل هو نتيجة تماهيهما مع ما تريده واشنطن وتل أبيب.
السياسات الرعناء والتوتيرية التي تتبعها السعودية، محلياً وإقليمياً، بل وحتى دولياً، كما في
التصعيد مع كندا، لا يمكن أن تفرض الرياض قائدةً في المنطقة، كما يتوهم ابن سلمان. على العكس تماماً. لقد فَقَدَ الحكم في السعودية شرعية حكم آل سعود، بعد أن اختطفه آل سلمان بالقهر والبطش، وواهِمٌ من يظن أن أفرع آل سعود إن بقيت ستنسى ما فعله سلمان وابنه بهم. أيضا، بتفكيك ابن سلمان المؤسسة الدينية الوهابية في السعودية وإضعافها وإفقادها مصداقيتها، فإنه يكون نزع ذاتياً إحدى أدوات تبرير تسلطه. وببطشه بالعلماء والدعاة والمفكرين والصحافيين وناشطي حقوق الإنسان وحقوق المرأة، من كل التيارات والخلفيات الفكرية، فإنه يكون قد استعدى عليه أعداء كثراً في المجتمع. وباستمرار التردّي الاقتصادي في المملكة، بسبب مغامرات ابن سلمان وسياساته الطائشة، وارتهانه لابتزاز ترامب، فإنه يقامر باستياء شعبي، خصوصاً بين الشباب. لا يريد الشباب السعودي متعةً فحسب، كما يتوهم ابن سلمان، بل يريد أيضاً استقراراً وظيفياً واقتصادياً. أضف إلى ذلك كله أن السعودية اليوم وسّعت دائرة أعدائها وخصومها في الإقليم، بين العرب وغير العرب، كما إيران وتركيا، وبين الشيعة والسنة. بل إن السعودية، بسياساتها الرعناء المنفلتة من أي عِقالٍ، لم تعد تجد مدافعين كثيرين عنها، لا في الأمم والمتحدة، ولا في أوروبا، ولا حتى في الولايات المتحدة التي بدأ كثيرون في مؤسسات صنع القرار فيها يضيقون ذرعا بها، بما في ذلك مسألة اختفاء خاشقجي، وقبل ذلك احتجاز رئيس الوزراء اللبناني، سعد الحريري، ورجل الأعمال الأردني - الفلسطيني، صبيح المصري، كرهائن.
باختصار، تتصرّف السعودية اليوم كما الثَوْرِ الهائج داخل محلٍ للخزف، فهي تُكَسِّرُ كل شيء حولها، لكنها أيضا قد تكسر قرونها، أو على الأقل سَتوهِنُهُما، إن لم يستدرك عقلاؤها الأمر، وينقذوها، وينقذونا جميعا، من جنون شَبِقٍ بالعرش.
تنطلق المقدمة هنا من لغز اختفاء الصحافي السعودي، جمال خاشقجي، بعد أن زار قنصلية بلاده في إسطنبول لاستخراج أوراق قانونية خاصة به. لا يزال مصير خاشقجي مجهولاً، وثمّة حديث متضارب، حتى كتابة هذه السطور، بين السلطات التركية والسعودية حول ما إذا كان محتجزا في مبنى القنصلية أم أنه غادرها، كما أن ثمّة قلقا يساور أصدقاء الرجل ومحبيه من أنه قد يكون اختطف ونقل إلى الرياض. على أيِّ حال، قد لا ترى هذه السطور النورَ إلا وقد كُشِفَ لغز اختفاء خاشقجي، والذي نتمنّى أن يعود إلى أهله ومحبيه سالماً آمناً. لكن، حتى وإن انكشف سرِّ اختفاء الرجل وظهر سالماً، فهذا لا يعني أن التيار الذي أحكم قبضته على القرار في المملكة قد عاد إليه عقلُه، فقضية خاشقجي ما هي إلا حلقة في سلسلة طويلة من السياسات الكارثية التي تتبعها المملكة منذ اعتلاء الملك سلمان العرش، مطلع عام 2015، وصعود نجم ابنه معه، والذي أصبح ولياً للعهد في يونيو/ حزيران 2017، بعد انقلاب قَصْرٍّ على وليِّ العهد حينها، محمد بن نايف.
بدأ سلمان عهده بإعلان الحرب على الحوثيين الذين اجتاحوا اليمن، وسيطروا على عاصمته
ليس استغلال الإمارات السعودية وركوبها، تحت ابن سلمان، مقتصرا على الساحة اليمنية، فقد رأينا ذلك أيضا في دفع ابن سلمان إلى حصار قطر، في يونيو/ حزيران 2017، وفي التصعيد مع تركيا، وإعلان الحرب على الإخوان المسلمين. وهذا لا يعني أن السعودية، قبل سلمان وابنه، كانت نظيفة اليدين، فقد تورطت في الثورات العربية المضادّة، ومحاولة التماهي مع إسرائيل لخنق روح التغيير في المنطقة واحتواء إيران. لكن السعودية، قبل عهد سلمان وابنه، كانت قائدة، أو شريكة في القيادة في المنطقة، في حين تحولت، في هذا العهد، إلى تبعٍ للإمارات، وكاسحة ألغام لسياساتها. الأدهى أن السعودية الدولة أصبحت رهينة طموحات ابن سلمان في المُلكِ وجنوحه، وهو هنا لا يشذّ عن رأيِ ملهمه وليّ عهد أبو ظبي، محمد بن زايد. مرة أخرى، قد يجادل بعضهم هنا، وماذا في ذلك؟ فمن أجل الملك يهون كل شيء. المشكلة أن السعودية، تحت حكم سلمان وابنه، تحولت إلى مقطورة للإمارات، بدل أن تكون هي القاطرة، كما كان الحال عقودا طويلة. أبعد من ذلك، لم يكن تسويق ابن سلمان في واشنطن من دون ثمن، وها هو دونالد ترامب يذكّر السعودية وملكها ووليّ عهده بالثمن مرة بعد أخرى: ادفعوا مزيداً من المال، وإلا! يخطئ من يظن أن نفوذ الرياض وأبو ظبي في المنطقة هو نتيجة عناصر قوة ذاتية، بل هو نتيجة تماهيهما مع ما تريده واشنطن وتل أبيب.
السياسات الرعناء والتوتيرية التي تتبعها السعودية، محلياً وإقليمياً، بل وحتى دولياً، كما في
باختصار، تتصرّف السعودية اليوم كما الثَوْرِ الهائج داخل محلٍ للخزف، فهي تُكَسِّرُ كل شيء حولها، لكنها أيضا قد تكسر قرونها، أو على الأقل سَتوهِنُهُما، إن لم يستدرك عقلاؤها الأمر، وينقذوها، وينقذونا جميعا، من جنون شَبِقٍ بالعرش.