هل تنجو السينما الفرنسية من موجة الإسلاموفوبيا؟

17 ديسمبر 2015
لقطة من "لا الأرض ولا السماء"
+ الخط -

في السنوات الأخيرة، وبعد محاولات متعثّرة، نجحت السينما الفرنسية في تخطّي عُقدتها مع المشهدية الهوليوودية وأنتجت أفلام أكشن محلّية لا تقلّ كفاءةً واحترافاً عن تلك الآتية من بلاد العم سام.

ترافق هذا الإنجاز مع استيراد مواضيع ونماذج هوليوودية لإعادة زرعها في التربة الفرنسية التي ظهر أنها مُهيّئة لها إلى حد كبير، ويشمل ذلك الدراما الحربية (فيتنام والجزائر)، ونموذج المحارب العائد مع كوابيسه، وعنف السجون، وحرب الشوارع..

غير أن نوعاً هوليوودياً جديداً ومثيراً للجدل فرض نفسه مع عودة فرنسا إلى حلف الناتو وانخراطها في "الحرب على الإرهاب"، وتزامن ذلك مع توالي الهجمات على الأراضي الفرنسية. يُمكن أن نورد، ضمن هذا النوع، ثلاثة أعمال هي: "لا السماء ولا الأرض" لـ كليمون كوجيتور و"ماريلاند" لـ أليس وينوكور و"الكاوبوي" لـ توماس بيدوغان.

يروي "لا السماء ولا الأرض" قصّة كتيبة فرنسية في أفغانستان يأخذ أعضاؤها بالاختفاء على نحو غامض أثناء القيام بمهامهم. في بداية الفيلم، يعتقد المشاهد أنه أمام استنساخ فرنسي لمقاربة صراع الحضارات الهوليوودية مع كليشيه إله الحب والسلام المسيحي مقابل إله الحرب الإسلامي المتعطّش للدماء.

سرعان ما يتبيّن أن الفيلم لا يتبنّى هذه المقاربة إلا لتفكيكها لاحقاً. مع اختفاء الجنود، تحوم شكوك قائد الكتيبة حول القرويين الأفغان، فيستجوبهم بعنف، معتقداً أنهم تواطؤوا مع "طالبان" على خطفهم. لكنه سرعان ما يكتشف أن قائد "طالبان" فقد بدوره عدداً من رجاله ويعتقد الفرنسيين مسؤولين عن اختفائهم.

لاحقاً، يخبره القرويّون بأن الجبل الذي اختفى فيه الجنود هو الجبل المقدّس الذي نام فيه أهل الكهف، وأن كل من يجرؤ على النوم فيه، يعاقبه الله بسحبه من الوجود (تحضر القصّة أيضاً في الموروث المسيحي تحت اسم "نائمي إيفيس السبعة").

يتبنّى كاهن مسيحي يعمل مع الجيش تفسير القرويين، فيعظ الجنود. وحين يعترض قائد الكتيبة قائلاً إن الله محبّة، ولا يمكن أن يفعل ذلك، يزجره الكاهن ويذكّره بمن يكون إله الكتاب المقدّس.

ترتكز مقاربة الفيلم على طرح مفاده أن الإله الإسلامي اليوم ليس إلى حد بعيد سوى الإله المسيحي الأصلي قبل الإصلاحات التي فرضتها ثورة الأنوار على الكنيسة، والذي يعود في العمل من بوّابة المعتقدات المتوارَثة للقرويين الأفغان.

أمّا "ماريلاند"، فيستلهم حبكته من أحداث وشخصيات واقعية احتلّت الواجهة الفرنسية، إلا أنه يستعيدها في سياق "متأمرك". "فانسان" محارب عائد من جحيم الجبهة مع الجهاديين، باضطرابات عصبية، يجد صديقُه ورفيقه في السلاح له عملاً في شركة للحماية الخاصة.

يتّضح لاحقاً أن الزبون رجل أعمال لبناني فاسد ("أفاتار" زياد تقيّ الدين) يتواطأ مع وزير الداخلية الفرنسي ("أفاتار" نيكولا ساركوزي) في صفقة بيع أسلحة إلى الإرهابيين لتمويل حملة الأخير الانتخابية.

لكن الحبكة تُستعاد بمعزل عن خصوصيتها الفرنسية في سياق يحاكي الحبكة الأميركية النمطية والمبتذلة عن السياسي الفاسد الذي يتورّط في صفقة مشبوهة مع رجل أعمال عربي يدعم الإرهاب.

في هذه المقاربة، لا يظهر العرب إلا بوصفهم الخارج "الداعشي" الغريب والمعادي، دون أية مراعاة لخصوصية موقعهم في التركيبة الفرنسية. حين يعرف فانسان أن الزبون لبناني، يقول له صديقه مازحاً: "أنت يزعجك أن تحمي عربياً!".

يتجاهل المخرج هنا أن نسبة كبيرة من المنتسبين الفرنسيين إلى الجيش والأمن هم من أصول عربية وأفريقية، وبالتالي، فإن معنى العبارة يختلف في السياق الفرنسي عنه في السياق الأميركي، ولا يقابلها في الثاني إلا مزحة موازية عن الزنوج أو المكسيكيين.

في النهاية، بعد أن يقضي فانسان المفتول العضلات على جيش كامل من الإرهابيين الملثّمين، يميط اللثام عن قائدهم ليقع على وجه عربي السحنة.

"الكاوبوي" يذهب أبعد في هذه المقاربة؛ ألان هو رب عائلة تقيم في شرق فرنسا في نادٍ عائلي يحاكي أعضاؤه في ملبسهم ونمط عيشهم رعاة البقر الهوليووديين. تهرب ابنته المراهقة كيلي مع صديقها ذي الجذور العربية، بعد أن غسل دماغها بالعقيدة الجهادية، يكتشف الأب في غرفتها أوراقاً مشبوهة بالحرف العربي يتّضح أنها شعارات جهادية.

يلاحظ مُتقن العربية بسرعة أن الأوراق لا تتضمّن إلا خليطاً عشوائياً من الأحرف المنفصلة، كما هو عليه الحال غالباً في الأفلام الأميركية. إن لم يكن هذا الاستخفاف مفاجئاً من جهة الأميركيين، فهو يبدو محيّراً في السياق الفرنسي؛ ذلك أن المخرج كان يكفيه أن يطلب من أي عامل عربي في الاستديو أو المقهى المجاور أن يكتب له شعارات بالعربية.

من جهة أخرى، يبدو الشريط كما لو كان يضع العالم الإسلامي كلّه في سلة واحدة، فهو لا يُجري، مثلاً، أي تمييز بين السلطات الباكستانية وإرهابيي القاعدة، ناهيك عن الاستعادة الدورية للكليشيه الاستشراقي عن التاجر العربي الجشع والمنافق لإسقاطه على من يُفترض أنهم جهاديون.

يأمل المرء اليوم أن لا تتمخّض الطبعة الفرنسية من 11 أيلول (هجمات الجمعة 13 تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي في باريس)، عن طبعة موازية من مسلسلي "24 ساعة كرونو" و"هوملاند" الأميركيين، لأن السياق الفرنسي لا يحتمل ذلك، فالعرب يمثّلون بالنسبة إلى الفرنسيين، ما يمثّله الأمريكولاتينيون بالنسبة إلى الأميركيين (اللغة العربية بلهجاتها المغاربية هي الثانية في فرنسا، كما أن الإسلام هو الديانة الثانية).

لو كان مرتكبو هجمات الحادي عشر من سبتمبر مكسيكيين، فلا شك أن السينما والتلفزيون الأميركيين كانا ليتبنّيا مقاربة أكثر حذراً وموضوعية. اليوم، لا يسع المرء إلا أن يراهن على ذكاء الفرنسيين، على مقاربة كوجيتور بدلاً من بيدوغان.


اقرأ أيضاً: "نظرة الصمت": عن القتل وشيطنة الضحية

المساهمون