هل تفاجئنا تونس بتحقيق عدالتها الانتقالية؟
فاجأت تونس العالم، وخصوصاً الدول العربية، بتحقيق انتقالها الديمقراطي السلمي الذي يسير، بخطى ثابتة، نحو ما سيطلق عليه، مستقبلاً، في الأدبيات السياسية "النموذج التونسي". بدأت صياغة هذا النموذج بإقرار أول دستور ديمقراطي في المنطقة العربية، تمت المصادقة عليه بالتوافق داخل جمعية تأسيسية منتخبة، وحصل على إجماع الشعب في استفتاء مفتوح. وتلته انتخابات تشريعية حرة ونزيهة، لم يُقصَ فيها أي طرف، وحققت أول تناوب ديمقراطي على السلطة في الدول العربية، عبر صناديق الاقتراع. وبدأت، قبل أيام، الحملة الانتخابية الممهدة لأول انتخابات رئاسية مفتوحة، مباشرة وديمقراطية، تشهدها دولة عربية.
لكن، الشوط المهم من هذا الانتقال هو الذي ينتظر أن تحققه العدالة الانتقالية في تونس، وهذه هي المفاجأة الكبيرة التي ينتظرها الجميع من بلاد "ثورة الياسمين". فلا انتقال ديمقراطياً حقيقياً من دون عدالة انتقالية حقيقية. وكل التجارب التي حاولت أن تقفز على شوط "العدالة الانتقالية"، أو تختصره في "عدالة شكلية"، انتهت تجاربها الديمقراطية بالفشل. والتجارب الناجحة في مجال العدالة الانتقالية في العالم قليلة، في مقدمتها تجارب دول أميركا الجنوبية، في تشيلي والأرجنتين وبيرو والسلفادور، وتجارب الدول الأفريقية في جنوب أفريقيا ورواندا وسيراليون، والتجارب الأوروبية، خصوصاً في صربيا واليونان.
أما في المنطقة العربية، فالتجربة اليتيمة التي يمكن أن ترقى إلى مواصفات العدالة الانتقالية فهي التي شهدها المغرب. وهي أول تجربة من نوعها سعت إلى تحقيق الانتقال الديمقراطي، من داخل السلطة القائمة وبطريقة سلمية، إلا أنها تبقى ناقصة على أكثر من مستوى، فهي استبعدت كلمة "الحقيقة"، الهدف الأسمى الذي بدونه لا يمكن أن يتحقق العدل، منذ البداية من برنامجها، وحتى من تسميتها. ونصت على المصالحة، بدلاً من المحاسبة والمساءلة، لتفتح الباب واسعاً للإفلات من العقاب. والواقع أنه لا عدالة مع استمرار الإفلات من العقاب. كما أن التجربة المغربية حددت مرحلة تحقيق العدالة الانتقالية في مدة زمنية محددة هي عهد الملك الراحل، في حين استمرت الانتهاكات والفساد في عهد الملك الحالي. وأخيراً بقيت توصيات الهيئة التي تولت الإشراف على هذه التجربة مجرد حبر على ورق، بعد مرور عشر سنوات على صدورها، فيما استمرت الانتهاكات والفساد والإفلات من العقاب، ما بات يستوجب تأسيس تجربة جديدة لتحقيق عدالة انتقالية حقيقية في المغرب.
لذلك، تبقى التجربة التونسية فريدة من نوعها في المنطقة العربية، لأنها تأتي بعد ثورة شعبية عارمة، أسقطت نظاماً سياسياً استبدادياً، وفي خضم مرحلة انتقال ديمقراطي واعد.
ستقود التجربة التونسية هيئة الحقيقة والكرامة، وهي هيئة صادق على تكوينها "المجلس التأسيسي" الذي وضع الدستور التونسي. وأسندت رئاستها إلى الحقوقية والمدافعة عن حقوق الإنسان، سهام بن سدرين، وهي مناضلة غنية عن كل تعريف، لما تحظى به من تقدير واحترام داخل بلادها وخارجها، عرفت بصلابتها وشجاعتها في مواجهة النظام الاستبدادي الذي أسقطته الثورة. وبإسناد رئاسة هذه الهيئة إلى امرأة مناضلة، وبإجماع مكونات المجلس التأسيسي، بما في ذلك حزب النهضة الإسلامي، تكون تونس قد أعطت نموذجاً آخر لتفرد تجربتها في العدالة الانتقالية.
لكن، ما ينبئ بأن التجربة التونسية ستفاجئ الجميع، كما فاجأتهم بثورتها، وتجربة انتقالها الديمقراطي، هو القانون التأسيسي لهيئة الحقيقة والكرامة. ففي مقدمة فصوله، ينص هذا القانون على أن "المساءلة والمحاسبة" تتمثل في مجموع الآليات التي تحول دون الإفلات من العقاب، أو التحلل من المسؤولية، فالمصالحة، حسب هذا القانون، لا تعني "الإفلات من العقاب وعدم محاسبة المسؤولين عن الانتهاكات". وطبقاً للقانون نفسه، سيتم إنشاء دوائر قضائية مختصة لمحاكمة الجناة في قضايا القتل العمد، والاغتصاب وأي شكل من العنف الجسدي، والتعذيب، والاختفاء القسري، والإعدام من دون توفير ضمانات المحاكمة العادلة. كما ستنظر هذه الدوائر في "الانتهاكات المتعلقة بتزوير الانتخابات وبالفساد المالي، والاعتداء على المال العام، والدفع إلى الهجرة الاضطرارية لأسباب سياسية..."
وحدد القانون من بين أهداف الهيئة لإصلاح المؤسسات "تفكيك منظومة الفساد والقمع والاستبداد، ومعالجتها بشكل يضمن عدم تكرار الانتهاكات واحترام حقوق الإنسان وإرساء دولة القانون"، و"مراجعة التشريعات وغربلة مؤسسات الدولة ومرافقها ممن تثبت مسؤوليته في الفساد والانتهاكات..". أكثر من ذلك، نص القانون التأسيسي للهيئة على إحداث لجنة لتقديم اقتراحات عملية لإصلاح المؤسسات المتورطة في الفساد والانتهاكات، وتقديم اقتراحات لـ"غربلة" الإدارة، وكل قطاعات الدولة، بما في ذلك الإعفاء، أو الإقالة أو الإحالة على التقاعد القسري في حق كل مسؤول، يثبت أنه قدم تقارير أو معلومات لحزب الرئيس المخلوع، أو للبوليس السياسي، نتج عنها ضرر أو انتهاك، أو قام بعمل عن قصد، نتج عنه مساندة أو مساعدة في الاستيلاء على المال العام. كما نص القانون نفسه على عقوبات تصل إلى السجن ستة أشهر لكل من ازدرى عمل الهيئة، أو أعاق عملها، أو لم يمتثل لدعوتها للإدلاء بشهادته، أو زور شهادته أمامها، أو حال دون نفاذها إلى وثائق تطلبها أو زورها.
وينتظر من الهيئة في ختام مهامها أن تصدر تقريراً ختامياً، يتضمن الحقائق التي توصلت إليها، وتحديد المسؤوليات، والأسباب التي أدت إلى الانتهاكات والتوصيات الكفيلة بعدم تكرارها مستقبلاً، بالإضافة إلى اقتراحات وإجراءات لتعزيز البناء الديمقراطي، وتوصيات تتعلق بالإصلاحات السياسية والإدارية والأمنية والقضائية والإعلامية والتربوية والثقافية التي تراها مناسبة لتجنب العودة إلى الاستبداد وانتهاك حقوق الإنسان وسوء التصرف في المال العام.
مجموع هذه الأهداف التي رسمت للتقرير النهائي لهذه الهيئة التي سيستمر عملها أربع سنوات، ويغطي الفترة من عام 1956 حتى تاريخ إنشائها، تلخص فلسفة "العدالة الانتقالية" التي تكمن في إحقاق الحق، وإعادته إلى أصحابه، وفي الكشف عن الحقيقة، وجبر الضرر وتعويض الضحايا، وإصلاح القوانين والمنظومات القضائية والأمنية، والإدارية والإعلامية والتربوية والثقافية. وعندما تتحقق كل هذه الأهداف كاملةً، ستكون الثورة التونسية قد حققت أهدافها. وتكون تونس قد حققت بناء تجربتها الخاصة في العدالة الانتقالية والانتقال الديمقراطي.