06 نوفمبر 2024
هل تسير تركيا إلى "دكتاتورية منتخبة"؟
أدى الاستفتاء على التعديلات الدستورية في تركيا إلى إحداث حالةٍ من الاستقطاب الحاد داخل المجتمع التركي بين مؤيديه ومعارضي نتائجه، واتسعت دائرة الخلاف، لتتجاوز التعديلات الدستورية إلى الخلاف حول شخص رجب طيب أردوغان، باعتباره من كان وراءها، والمستفيد الأول منها.
وبالنسبة لمعارضي هذه التعديلات، فإنهم يخشون أن تؤدي إلى ترسيخ حكم الفرد الواحد، وتؤسّس منظومة ديكتاتورية فعلية في بلادٍ لم تتعاف بعد من حكم العسكر، ولم تتخلص بعد من خطر الانقلابات العسكرية. أما مؤيدو هذه التعديلات فينظرون إليها على أنها خطوةٌ إلى الأمام لإحداث تغييراتٍ جذرية في السياسة التركية، من خلال وجود حكم تنفيذي قوي في يد شخص واحد تسلم له مقاليد قيادة البلاد نحو التقدم المنشود.
حالة الاستقطاب الداخلي التي أحدثتها هذه التعديلات، وقسمت المجتمع التركي إلى مؤيد ومعارض لأردوغان، تجاوزت الحدود التركية إلى العالمين العربي والإسلامي، واخترقت حتى صفوف الإسلاميين في كل مكان، ممن كانوا ينظرون إلى تجربة أردوغان في الحكم نموذجاً لنجاح الإسلام السياسي في القيادة والحكم والتسيير.
ولا شك في أن أردوغان نجح في قيادة بلاده خلال الخمس عشرة سنة الماضية، ووضعها في مصاف الدول المتقدمة ومن بين الأنظمة الاقتصادية القوية في العالم. وقد بدأ عهده بسياسة "صفر نزاعات"، أي تجاوز كل ميراث النزاعات القديمة التي كانت بين الإمبراطورية العثمانية والدولة التركية التي خَلَفتها ومحيطها الجغرافي الإقليمي. وساهمت تلك السياسة الذكية في النهوض بتركيا قوة إقليمية صاعدة، إلى أن أصبحت اليوم من أقوى الدول المؤثرة في محيطها وفي العالم. وقد تمكّنت تركيا من تحقيق نجاحها الاقتصادي بفضل نظامها الديمقراطي الذي أتاح، لأول مرة، لحزب إسلامي قيادة البلاد، وأدى هذا النجاح إلى إيجاد نموذجٍ لما سمي نظام الحكم الإسلامي الديمقراطي.
اليوم، ومع التعديلات الدستورية التي ستنتقل بتركيا من نظامٍ برلماني تعدّدي إلى نظام رئاسي،
كل السلطات ستصبح فيه مركزة في يد شخص واحد، يخشى مؤيدو أردوغان، قبل معارضيه، من أن يؤدي ذلك إلى انهيار النموذج السياسي والاقتصادي الذي باتت تمثله تركيا في عالم اليوم، وأن تتحول قصة النجاح التركي إلى كابوس مروّع.
وهناك اليوم من يتساءل إن كانت تركيا بالفعل في حاجةٍ إلى مثل هذه التعديلات؟ فتركيا حققت أهم نجاحاتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية في ظل النظام الحالي الذي جاءت التعديلات لتغييره. وحتى أردوغان الذي يُعتقد أن إغراء السلطة دفعه إلى طرح هذه التعديلات كان يتصرف كرئيس له كامل الصلاحيات.
يعتقد من صوتوا أو أيدوا هذه التعديلات أن أردوغان في حاجةٍ إلى صلاحيات واسعة أكثر من الممنوحة حاليا لرئيس الجمهورية لتحقيق النهضة التركية التي وعد بها. أما المعارضون فلا يرون فيها سوى انتقالٍ من نظام برلماني تعدّدي إلى نظام رئاسي فردي سيجعل أردوغان يستمر في الحكم حتى 2029، مسجلا بذلك رقما قياسيا ستضاهي به تركيا أسوأ الدكتاتوريات في تاريخ العالم، عندما يستمر حكم أردوغان 28 عاما بالتمام والكمال.
أول متضرّر اليوم من هذه التعديلات الدستورية هو أردوغان نفسه الذي يُعتقد أنه المستفيد الأول منها أيضا، فالنموذج "الأردوغاني" المبني على الحكم الفردي، والذي طالما جذب معجبين كثيرين به هو اليوم في طريقه إلى التأسيس لدكتاتورية جديدة، "دكتاتورية منتخبة". ومن يعود إلى قراءة التاريخ يكتشف أن أسوأ الدكتاتوريات في العالم وأكثرها ضررا للبشرية كانت هي "المنتخبة".
عاش أردوغان، أخيرا، تجربتين عصيبتين، المحاولة الانقلابية الفاشلة في الصيف الماضي، والاستفتاء على التعديلات الدستورية لتوسيع صلاحياته رئيساً، وفي الحالتين خرج أردوغان منتصرا، لكنه انتصارٌ بطعم الخسارة، حتى لا أقول "بطعم الهزيمة" كما وصفت ذلك "بي بي سي"، والخاسر الأكبر في الحالتين هو النموذج الديمقراطي التركي الذي كان أردوغان مؤسسه وعنوانه.
وبهذه التعديلات الدستورية، وضع أردوغان بلاده وشعبه أمام مفترق طرق كبير وحاسم، إما
أن يختار أن يكون موحّدا ليعيد ترميم التجربة الديمقراطية التي بدأت تتآكل، حتى قبل المحاولة الانقلابية الفاشلة، أو أن تؤدي نتائج الاستفتاء إلى تعميق حالة الاستقطاب الحاد داخل المجتمع التركي، المنقسم على نفسه، ما قد يمهد لحكم استبدادي طويل، أو قد يُسرع بمحاولة انقلابية جديدة، تعود بالبلاد إلى حكم العسكر الذي لم يودّعه الشعب التركي إلا قبل سنوات قريبة.
فتركيا الحديثة، وعلى الرغم من تجربة حزب العدالة والتنمية التي حاولت أن تصالح بين العلمانية والديمقراطية، ما زالت لم تفطم بعد، وتاريخها الاستبدادي الذي رعته، ونظرت له "أصولية علمانية"، في سياق تاريخي وثقافي معقد، تحول فيه الجيش فيه إلى حارس للعلمانية ومناهض للديمقراطية. وخلال فترة حكم "العدالة والتنمية" (حزب أردوغان) بدا وكأن تركيا أصبحت قادرةً على المصالحة بين "الإسلام السياسي" و"العلمانية" و"الديمقراطية". لكن، اليوم هناك مخاوف مشروعة من أن المحاولة الانقلابية الفاشلة وخطر تكرارها الذي مازال قائما، والاستفتاء على التعديلات الدستورية التي زادت من تقسيم المجتمع التركي، سيعيدان أكبر بلد سني في الشرق الأوسط إلى المربع الأول، ويضعانه أمام خيارين صعبين: العودة إلى "الأصولية العلمانية" أو الخضوع لأصولية جديدة هي "الأصولية الدينية الديمقراطية" التي يخيف شبحها كثيرين في العالم، في منطقة تشهد مخاضا تاريخيا، يصعب التنبؤ بما ستؤول إليه الأمور في أغلب بلدانه. وما بين الخيارين، يوجد خيار ثالث هو خيار الديمقراطية التي تتطلب تنازلاتٍ، وتُبنى على توافقات يفتقدها المجتمع السياسي التركي اليوم.
من المؤسف أن يتحوّل أردوغان الذي كان يُعتبر، بدون منازع، أول قائد للتجربة الديمقراطية التركية الفتية، ونموذجا للإسلام السياسي الديمقراطي، إلى أكبر خطرٍ يهدّد نموذجه وتجربته، وأكبر خطرٍ على الديمقراطية نفسها المهدّدة اليوم في تركيا!
وبالنسبة لمعارضي هذه التعديلات، فإنهم يخشون أن تؤدي إلى ترسيخ حكم الفرد الواحد، وتؤسّس منظومة ديكتاتورية فعلية في بلادٍ لم تتعاف بعد من حكم العسكر، ولم تتخلص بعد من خطر الانقلابات العسكرية. أما مؤيدو هذه التعديلات فينظرون إليها على أنها خطوةٌ إلى الأمام لإحداث تغييراتٍ جذرية في السياسة التركية، من خلال وجود حكم تنفيذي قوي في يد شخص واحد تسلم له مقاليد قيادة البلاد نحو التقدم المنشود.
حالة الاستقطاب الداخلي التي أحدثتها هذه التعديلات، وقسمت المجتمع التركي إلى مؤيد ومعارض لأردوغان، تجاوزت الحدود التركية إلى العالمين العربي والإسلامي، واخترقت حتى صفوف الإسلاميين في كل مكان، ممن كانوا ينظرون إلى تجربة أردوغان في الحكم نموذجاً لنجاح الإسلام السياسي في القيادة والحكم والتسيير.
ولا شك في أن أردوغان نجح في قيادة بلاده خلال الخمس عشرة سنة الماضية، ووضعها في مصاف الدول المتقدمة ومن بين الأنظمة الاقتصادية القوية في العالم. وقد بدأ عهده بسياسة "صفر نزاعات"، أي تجاوز كل ميراث النزاعات القديمة التي كانت بين الإمبراطورية العثمانية والدولة التركية التي خَلَفتها ومحيطها الجغرافي الإقليمي. وساهمت تلك السياسة الذكية في النهوض بتركيا قوة إقليمية صاعدة، إلى أن أصبحت اليوم من أقوى الدول المؤثرة في محيطها وفي العالم. وقد تمكّنت تركيا من تحقيق نجاحها الاقتصادي بفضل نظامها الديمقراطي الذي أتاح، لأول مرة، لحزب إسلامي قيادة البلاد، وأدى هذا النجاح إلى إيجاد نموذجٍ لما سمي نظام الحكم الإسلامي الديمقراطي.
اليوم، ومع التعديلات الدستورية التي ستنتقل بتركيا من نظامٍ برلماني تعدّدي إلى نظام رئاسي،
وهناك اليوم من يتساءل إن كانت تركيا بالفعل في حاجةٍ إلى مثل هذه التعديلات؟ فتركيا حققت أهم نجاحاتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية في ظل النظام الحالي الذي جاءت التعديلات لتغييره. وحتى أردوغان الذي يُعتقد أن إغراء السلطة دفعه إلى طرح هذه التعديلات كان يتصرف كرئيس له كامل الصلاحيات.
يعتقد من صوتوا أو أيدوا هذه التعديلات أن أردوغان في حاجةٍ إلى صلاحيات واسعة أكثر من الممنوحة حاليا لرئيس الجمهورية لتحقيق النهضة التركية التي وعد بها. أما المعارضون فلا يرون فيها سوى انتقالٍ من نظام برلماني تعدّدي إلى نظام رئاسي فردي سيجعل أردوغان يستمر في الحكم حتى 2029، مسجلا بذلك رقما قياسيا ستضاهي به تركيا أسوأ الدكتاتوريات في تاريخ العالم، عندما يستمر حكم أردوغان 28 عاما بالتمام والكمال.
أول متضرّر اليوم من هذه التعديلات الدستورية هو أردوغان نفسه الذي يُعتقد أنه المستفيد الأول منها أيضا، فالنموذج "الأردوغاني" المبني على الحكم الفردي، والذي طالما جذب معجبين كثيرين به هو اليوم في طريقه إلى التأسيس لدكتاتورية جديدة، "دكتاتورية منتخبة". ومن يعود إلى قراءة التاريخ يكتشف أن أسوأ الدكتاتوريات في العالم وأكثرها ضررا للبشرية كانت هي "المنتخبة".
عاش أردوغان، أخيرا، تجربتين عصيبتين، المحاولة الانقلابية الفاشلة في الصيف الماضي، والاستفتاء على التعديلات الدستورية لتوسيع صلاحياته رئيساً، وفي الحالتين خرج أردوغان منتصرا، لكنه انتصارٌ بطعم الخسارة، حتى لا أقول "بطعم الهزيمة" كما وصفت ذلك "بي بي سي"، والخاسر الأكبر في الحالتين هو النموذج الديمقراطي التركي الذي كان أردوغان مؤسسه وعنوانه.
وبهذه التعديلات الدستورية، وضع أردوغان بلاده وشعبه أمام مفترق طرق كبير وحاسم، إما
فتركيا الحديثة، وعلى الرغم من تجربة حزب العدالة والتنمية التي حاولت أن تصالح بين العلمانية والديمقراطية، ما زالت لم تفطم بعد، وتاريخها الاستبدادي الذي رعته، ونظرت له "أصولية علمانية"، في سياق تاريخي وثقافي معقد، تحول فيه الجيش فيه إلى حارس للعلمانية ومناهض للديمقراطية. وخلال فترة حكم "العدالة والتنمية" (حزب أردوغان) بدا وكأن تركيا أصبحت قادرةً على المصالحة بين "الإسلام السياسي" و"العلمانية" و"الديمقراطية". لكن، اليوم هناك مخاوف مشروعة من أن المحاولة الانقلابية الفاشلة وخطر تكرارها الذي مازال قائما، والاستفتاء على التعديلات الدستورية التي زادت من تقسيم المجتمع التركي، سيعيدان أكبر بلد سني في الشرق الأوسط إلى المربع الأول، ويضعانه أمام خيارين صعبين: العودة إلى "الأصولية العلمانية" أو الخضوع لأصولية جديدة هي "الأصولية الدينية الديمقراطية" التي يخيف شبحها كثيرين في العالم، في منطقة تشهد مخاضا تاريخيا، يصعب التنبؤ بما ستؤول إليه الأمور في أغلب بلدانه. وما بين الخيارين، يوجد خيار ثالث هو خيار الديمقراطية التي تتطلب تنازلاتٍ، وتُبنى على توافقات يفتقدها المجتمع السياسي التركي اليوم.
من المؤسف أن يتحوّل أردوغان الذي كان يُعتبر، بدون منازع، أول قائد للتجربة الديمقراطية التركية الفتية، ونموذجا للإسلام السياسي الديمقراطي، إلى أكبر خطرٍ يهدّد نموذجه وتجربته، وأكبر خطرٍ على الديمقراطية نفسها المهدّدة اليوم في تركيا!