هل تخلى عنهم الأميركيون؟
منذ فترة ليست قصيرة، يشتكي معارضون سوريون من تبدلٍ في تعامل الولايات المتحدة مع الأزمة السورية، ويشيرون إلى تغيّر أولويات أميركا في بلدهم، من الحديث الواضح عن إنهاء شرعية النظام إلى رفع شعار مكافحة الإرهاب، والاهتمام ببناء تحالف عريض لمواجهة تنظيم الدولة الإسلامية، على حساب دعم المعارضة السورية لإسقاط النظام. لذلك، لا يكف هؤلاء عن الشكوى من التخلي الأميركي والعالمي عن قضيتهم، واتهام أميركا بالتواطؤ ضد الثورة السورية أحياناً. ولكن، من باب العتب، وفي سبيل حصد مزيد من الدعم الأميركي، إذ راهن هؤلاء، منذ البداية، على تدخل أميركي ينصرهم، لكنهم، بعد كل ما جرى، ومع تغيّر النبرة الأميركية، يشعرون بالخذلان.
يعيدنا هذا إلى الموقف الأميركي من الربيع العربي، ومن التحول الديمقراطي في الوطن العربي، خصوصاً وأن محللين، وغالبهم من مروجي الدعايات الأميركية في المنطقة، بشرونا في بداية الربيع العربي، بتغيير في الموقف الأميركي التقليدي الذي يساند الأنظمة الاستبدادية، أو يغض الطرف عن ممارساتها، بعد أن أدرك الأميركيون حجم العبء الذي تصنعه هذه الأنظمة، وأنه يمكن لأميركا تأمين مصالحها في المنطقة، عن طريق التحالف مع قوى شعبية، تصل عبر صناديق الاقتراع. واعتمدت قوى سياسية عربية على محاولة إقناع الأميركيين بهم بدائل للأنظمة الحالية، منطلقين من التسليم بالهيمنة الأميركية، والاعتقاد بقدرة أميركا على تثبيتهم في الحكم، لكن نظرة سريعة إلى ما آلت إليه الأمور في السنوات الأربع الماضية، يكشف فشل هذا النوع من الرهانات.
اتسم الموقف الأميركي من الربيع العربي بالارتباك، وهي سمة ملازمة لمقاربة إدارة باراك أوباما الشؤون الخارجية. وفي حالة مصر، انقسمت إدارته بين مؤيد للتخلي عن حسني مبارك، ومعارض له، وفي النهاية، غض الأميركيون الطرف عن خروج مبارك من اللعبة السياسية، ورحبوا بالنتيجة الأولى لثورة 25 يناير، واعتقد الإخوان المسلمون أنهم قادرون على كسب الأميركيين إلى صفهم، فقاموا بما يلزم لإقناع الأميركيين بأنهم بديل ناجح، من مناقضة شعاراتهم حول فلسطين بالقبول بكامب ديفيد، والسير في مسار النظام السابق في خطابه تجاه القضية الفلسطينية والعلاقة مع الصهاينة، إلى اعتماد برنامج اقتصادي نيوليبرالي، ودعوة الأميركيين للاستثمار في مصر.
قيل إن الأميركيين اقتنعوا بأن "الإخوان" قوة إسلامية معتدلة، ولها وزن شعبي، ويمكن أن تعزز المصالح الأميركية بغطاء الشرعية الشعبية، وتواجه القوى الجهادية، والجهات السياسية المعادية لأميركا في المنطقة، واعتقد "الإخوان" أنهم نجحوا في إقناع الأميركيين بأنفسهم، غير أن قيادة الجيش المصري التي حاول "الإخوان" مهادنتها والدخول معها في تسويات، قررت إخراجهم من المشهد، بعد المظاهرات الحاشدة في 30 يونيو، وهرع موفدون من "الإخوان" إلى واشنطن لوقف الانقلاب، لكن الأميركيين لم يحموا الإخوان، ولم يتخذوا موقفاً معادياً لنظام عبد الفتاح السيسي، أو يقطعوا عنه المعونات، وقبلوا بالأمر الواقع تدريجياً، ولم تكن ردة فعلهم بمستوى تطلعات "الإخوان".
في سورية، دعمت أميركا المعارضة السياسية، وأشرفت على دعم فصائل من المعارضة المسلحة، وتبنت خطاباً معادياً لنظام الأسد، وكان أعضاء الائتلاف السوري يأملون بتدخل عسكري أميركي مباشر، يحسم المعركة على الأرض، لكن الأميركيين لم يتدخلوا عسكرياً، إذ للقوة الأميركية حدود، ووصلت الأمور إلى مرحلة بالغة السوء، بفعل توازنات محلية وإقليمية ودولية كرست مشهد الحرب الأهلية. وفي المحصلة، استمر النظام السوري في إجرامه، في وقت يشتكي فيه معارضون من الخذلان الأميركي، بعد فشل رهاناتهم، وانكشاف عجزهم.
امتدت الرهانات الخائبة إلى أماكن أخرى، ففي العراق، تخلى الأميركيون عن نوري المالكي الذي اختاروه ليكون رئيساً لوزراء العراق، ثم قبلوا به في انتخابات عام 2010، وتخلوا وقتها عن إياد علاوي، ولم يكن دافع تخليهم عن المالكي طائفيته، بل فشله الذريع في إدارة العراق، وعدم قدرته على تلبية طموحاتهم. وفي البحرين، راهن جزء من المعارضة البحرينية على علاقة قوية بالأميركيين، تضغط على النظام هناك لتلبية مطالبهم، لكن الحكومة البحرينية ضربت بقوة، ووصلت إلى اعتقال رموز هذه المعارضة المتصالحة مع أميركا، من دون أن يتحرك الأميركيون، وهم لم يتحركوا، أيضاً، لدعم أو مساندة أي من الحقوقيين في العالم العربي الذين راهنوا على علاقتهم بأميركا، فاعتقلتهم أنظمتهم من دون رد فعل أميركي، يتجاوز استنكاراً خافتاً.
الأمثلة أكثر من أن تحصى، والنتيجة تقول إن الأميركيين لم يجعلوا موضوع الديمقراطية، أو مساندة القوى السياسية الحليفة، أو الساعية إلى التحالف، على رأس أولوياتهم في المنطقة، وقد باعوا "أصدقاءهم" مرات، وبقيت قضايا النفط وحماية إسرائيل القضايا التي لها الأولوية تقليدياً في السياسية الأميركية تجاه العالم العربي، وبدلت أميركا رأيها بأصدقائها، أو تخلت عنهم، حين شعرت أن من مصلحتها تركهم يعيشون بحسرتهم.
أميركا جزء أساسي من المشكلة، وليست جزءاً من الحل، فالهيمنة الأميركية مرتبطة بالاستبداد، ومعيقة للتحول الديمقراطي، ومن غير الممكن الفصل بين العلاقة مع أميركا وموقفها من إسرائيل، ومن يتطلع لوطن عربي جديد، وتغيير حقيقي، لابد له من الرهان على قواه الذاتية، لا الاستسلام للوصاية الخارجية.