هل باتت السعودية "قوة مراجعة" في النظام الإقليمي؟

28 مايو 2016

الملك سلمان وأوباما..العلاقات الأميركية السعودية التي تغيرت (21 إبريل/2016/Getty)

+ الخط -
تكشف التبدّلات التي طرأت على السياسة الخارجية السعودية، خلال العام المنصرم، عن وجود توجّه، ما زال يتبلور، ويدفع نحو تحول السعودية إلى قوة مراجعة (تغيير) في النظام الإقليمي، بعد أن كانت الأشد حرصاً على استمراره وعدم المساس به. قد تكون هذه الانعطافة، في حال بلغت نهاياتها المنطقية، الأهم التي تطرأ على السياسة الخارجية السعودية منذ نشأة المملكة قبل أكثر من ثمانين عاماً.
على الرغم من أن فكرة التغيير كانت الدافع الرئيس وراء نشأة الدولتين السعوديتين، الأولى (1744-1818) والثانية (1824-1891)، حيث اتسمت دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب، في زمانه، بأنها ذات طابع ثوري، تهدف إلى تغيير المجتمع "المثقل بالبدع والخرافات"، إلا أن الدولة السعودية الثالثة التي تأسست رسمياً عام 1932، تحولت، خصوصاً بعد اكتشاف النفط وتبلور النظام الإقليمي العربي، إلى قوة محافظةٍ بامتياز (Par Excellence). وشمل ذلك مقاومة كل أشكال التغيير والأفكار التي تقف خلفه، بغض النظر عن مصدرها أو مضمونها (قومية، ماركسية، إسلامية.. إلخ).
لذلك، كان طبيعياً أن تجد السعودية نفسها في حالة تحالفٍ مع كل القوى المحافظة في النظامين، الإقليمي والدولي، في فترة الحرب الباردة، فقاومت بشدة محاولات التغلغل السوفييتي اتجاه المنطقة، وكل الأفكار الانقلابية التي جاء بها اليسار، بتنوع درجاته وألوانه (ماركسي، أو قومي عربي). وبلغ الأمر حد الدخول في مواجهةٍ مفتوحةٍ مع موسكو في أفغانستان التي غزاها الاتحاد السوفييتي في ديسمبر/ كانون الأول 1979، إذ شكلت السعودية الضلع الرئيس في تحالفٍ ضم إليها، في ذلك الوقت، كلاً من باكستان والولايات المتحدة ومصر والمغرب، وتولى عملية تمويل المجاهدين وتسليحهم وتدريبهم، والتي انتهت عملياً ليس فقط بانسحاب موسكو في عام 1989، بعد عقد دموي خسرت فيه نحو 70 ألفاً من جنودها، إنما شكلت أفغانستان أحد أهم العوامل التي أدت إلى انهيار الاتحاد السوفييتي، وانتصار الغرب في الحرب الباردة.
على المستوى الإقليمي، قاومت السعودية المد القومي العربي، وتحولت إلى قوة سكونٍ (Status Que Power) رافضة أي محاولات للتغيير في النظام الإقليمي العربي، فقاومت الوحدة المصرية-السورية، ودعمت إمام الزيدية في اليمن، محمد البدر بن أحمد بن
يحيى حميد الدين، الذي أطاحه انقلاب عسكري عام 1962، ألغى المملكة المتوكلية الهاشمية (1918-1962) وأعلن قيام الجمهورية اليمنية. وبناءً عليه، دخلت السعودية في حرب وكالةٍ ضد مصر التي دعمت بدورها انقلاب عبد الله السلال. وعلى الرغم من أن مصر هُزمت في حرب اليمن، بانسحابها منها بعد خسارتها أمام إسرائيل في حرب عام 1967، وعلى الرغم من أن البدر لم يعد بتاتاً إلى السلطة، إلا أن السعودية باتت القوة الإقليمية الأهم في اليمن. ومع انحسار المد القومي العربي، وصعود تيارات الإسلام السياسي (قوى تغيير بدورها)، وجدت السعودية نفسها في مواجهةٍ مع النسخة الراديكالية لهذه التيارات، وشكلت حادثة اقتحام الحرم المكي الشريف عام 1979 مؤشراً على صراعٍ، سوف يأخذ أبعاداً جديدة بعد نهاية الحرب الباردة.
وعندما انتصرت ثورة الخميني، وسقط الشاه عام 1979، وجدت السعودية نفسها في مواجهةٍ مع إيران التي بدأت تنشد بدورها "قلب" النظام الإقليمي، وتغييره لمصلحتها، عبر محاولة تصدير ثورتها، في استمرارٍ لطموحات التوسع التي بدأها الشاه، إنما بصبغةٍ إسلامية. وعليه، دخلت السعودية في حرب وكالةٍ مع نظام الملالي الساعي إلى تغيير المنطقة، بدعمها العراق في حرب الثماني سنوات، أقعدت نتائجها إيران، وأفشلت خططها في التمدّد نحو ربع قرن (حتى عام 2003).
وعلى الرغم من عدائها نظام الرئيس صدام حسين، إلا أن السعودية ظلت منسجمةً مع مبدأ مقاومة التغيير، إذ عارضت الخطط الأميركية الرامية إلى الزحف نحو بغداد، وإسقاط النظام العراقي بعد هزيمته في الكويت عام 1991، كما عارضت غزو العراق عام 2003، وإن فشلت، هذه المرة، في منعه. وعلى الرغم من عدائها الشديد نظام بشار الأسد، بعد اغتيال رئيس وزراء لبنان الأسبق رفيق الحريري، إلا أن السعودية لم تكن مرة مع إسقاط نظامه، بل ظلت، كل الوقت، تسعى إلى تغيير سلوكه وإبعاده عن إيران، في إطار المواجهة بين ما عرف حينها بمحوري الاعتدال والممانعة. وعندما اندلعت ثورات الربيع العربي، ظلت السعودية أمينةً على مبدأ رفض التغيير، فعارضت ثورات الربيع العربي، وتدخلت في غير مكانٍ لمنعها، وحيث لم تستطع منع التغيير، قامت باحتوائه (اليمن) أو إسقاطه (مصر). وخلال السنوات الأولى للربيع العربي، تملك السعودية الخوف من وصول تيارات الإسلام السياسي (الإخوان المسلمين خصوصاً) إلى السلطة، بدعم تركي-أميركي أحياناً، وعدم ممانعة إيرانية في أحيان أخرى.
لكن ما حصل في السنة الأخيرة، أن السعودية بدأت تدرك أن النظام الإقليمي الذي حاولت منع حصول أي تغيير فيه سبعة عقود، وخاضت في سبيل ذلك مواجهات مكلفة، كان قد تغيّر فعلاً، وأن هذا التغيير الذي بدأ مع الغزو الأميركي للعراق أدى إلى نشوء نظام إقليمي مختلف تماماً عما عرفته السعودية منذ نشأتها، وباتت تتمتع إيران فيه بنفوذٍ إقليمي كبير.
استتبع هذا التحول تغيرا في سلوك كل طرف، إذ غدت معه إيران "الثورية" القوة الأكثر محافظةً في المنطقة، ولتحل بذلك محل السعودية، بتحولها إلى قوة سكون (Status Que Power) برفضها "التغيير" الذي نشدته الثورات في سورية واليمن والعراق، خصوصاً في ظل سيطرة أنظمةٍ مواليةٍ لها على السلطة في هذه الدول. ويتمحور جوهر السلوك الإيراني اليوم حول الدفاع عن الوضع الإقليمي القائم الذي ترى أنه يميل لصالحها بدرجةٍ ما، في حين يتمثل السلوك السعودي في محاولة تغييره. وبهذا، تجد السعودية نفسها تسلك مسلكاً طالما حاربته، وحاولت تجنّبه، لأنها إذا لم تفعل ذلك الآن، فإن وجودها نفسه يصبح في خطر. لكن، حتى ينجح المسعى السعودي في التغيير إقليمياً، لا بد له أن يبدأ من الداخل، وذلك عبر عملية إصلاح حقيقية، تسد كل الثغرات التي يمكن أن ينفذ منها خصوم المملكة، وهم اليوم كثر، وتنعكس على شكل سياسةٍ خارجيةٍ أكثر تماسكاً، أكثر حيويةً، وأكثر تعبيراً عن مصالح السعودية، وعموم القوى العربية التي تتطلع إليها في التصدّي للمشروع الإيراني.
دلالات