13 فبراير 2018
هل العرب أمة ماضوية؟
الراهن العربي مكتظ بمشاهد كثيرة، يمكن قراءة بعضها بأنها تحمل تداعيات الماضي على متغيرات الزمن المعاصر، ليس فقط في ميادين الصراعات العنيفة بأشكالها المختلفة. ولكن، أيضاً على المستويات الفكرية والثقافية، فالواقع العربي يشهد ازدهاراً واضحاً للخطاب الديني بصيغته الأصولية، ترافقه انعكاساتٌ على أداء نخبٍ سياسيةٍ ومثقفةٍ كثيرة، في استحضار نماذج العصور العربية إبّان الدولة الإسلامية بصورها الشمولية، باعتبارها مرجعياتٍ ملهمة، لا يضاهيها شيء في عالم اليوم. وغالباً ما تأسست في مراحل تكوين الوعي الفردي والجمعي مسألة فرادة المجد التاريخي، ليس في سياقاتٍ موضوعيةٍ، أو نقدية بناءة. ولكن، من زاوية أن تلك الفرادة جديرة بالحنين والتوق المستمر إليها، والسعي إلى استنساخها من خلال إعادة إنتاج مقوماتها التاريخية، ومحاولة استلهام ذلك الماضي، بخياراته الروحانية وعوامل وحدته وقوته، وابتعاث أمجاده بتقمصها وتفعيلها، أي باختصار، بناء الحاضر بأدوات الماضي.
وعلى الرغم من أن أجزاءً مضيئة من تاريخ الأمة العربية تركت أثراً عميقاً في النهضة الإنسانية الحديثة، وأن الدين الإسلامي الحنيف كان، وما يزال، الهوية الجامعة التي كانت سبباً في النهضة العربية الإسلامية في قرونٍ سابقة، إلا أن للحاضر مرتكزات مرتبطة بالتطورات الكبيرة للعلوم والمعارف وتطبيقاتها المختلفة، وما رافقها من تغييراتٍ عميقةٍ في المجتمعات الانسانية. ومن هنا، يمكن الإدراك الحقيقي لمبرّرات السؤال حول ماضوية العرب، أو ماضوية العقل العربي، وضيقهم بالحاضر الذي يرونه عهد الانكسارات الكبيرة والتخلف عن ركب الأمم الأخرى. وعوضاً عن الكشف عن المسببات الحقيقية، يذهب العرب باتجاه الماضي، في رحلةٍ معنويةٍ مشوبةٍ بملابساتٍ ومخاطر كثيرة.
تكمن البداية في الاعتراف بأن هناك ضرورات تحتم الدعوة إلى تحرير العقل العربي، باعتباره القاطرة التي يمكن لها أن تأخذ المجتمعات العربية خارج واقعها الحالي، والاعتراف بالضرورات إشارة واضحة إلى أن العقل العربي يعيش، بالفعل، أزمة كبيرة تتطلب الوقوف أمامها بكثير من البحث والاجتهاد.
يتفق كثيرون على أن العقل العربي يواجه معضلات مختلفة، متعلقة، في المقام الأول، بالتفسيرات السائدة والمتشدّدة لبعض "المسبَّقات" الروحية والتاريخية، وعدم إيجاد وعي متصالح مع المفاهيم المعاصرة للحضارة البشرية بشكل عام، خصوصاً التفسيرات التي تعمل على وضع العقل بشكل مطلق تحت الإملاءات المختلفة والمتناقضة أحياناً.
لقد بدأ تقييد العقل العربي منذ زمن بعيد، بتطويقه بالمحدّدات الدينية الصارمة، وسلب إرادته
الاختيارية في التفريق بين الألوان، ثم محاصرته داخل المذاهب والمدارس المتنوعة، وإغراقه في استجرار الموسوعات القديمة، وفي بحورٍ من التفسير والتأويل والتأصيل، وتقسيمه بين الجماعات والفِرَق التي تكاثرت عبر أجيال متلاحقة. وأمام تلك الجلاميد من الموروث التاريخي المفخخ بزيت الصراعات، انكمشت آفاق العقل العربي فانقطع، في مرحلةٍ تاريخيةٍ حاسمة، عن الاهتمامات الجادة بالعلوم والفلسفة والمعارف، مقارنة بنظرائه الآخرين في الغرب وفي الشرق الآسيوي، وأصبحت كل روابطه التاريخية متعلقةً بشكل جوهري بالثقافة الدينية، ليس كمنظومة روحية لها ساحاتها ووظائفها، وإنما كنظام شامل لحياة الفرد والمجتمع والأمم، ومنهج للحكم وتفسير ظواهر الكون. تراجعت، إثر ذلك، حقائق المقومات المادية للحياة ومعانيها أمام فوضى الولاءات المعنوية، محركاً رئيساً للصراعات والتفاعلات السلبية.
أدركت الهند، بلاد الآلهات المتعددة والقوميات والخرافة، أن "الفجور الحقيقي لا يكمن في إطلاق الدراما الإباحية ( كاما سوترا)"، لكنه يكمن في الجوع والحروب العبثية. وللهند أن تفخر اليوم بالمعقل العالمي للمجمعات الصناعية في البنغالور/ وادي السليكون، وبأن دخلها من صادرات تقنيات المعلومات والبرمجيات (وحدها) يربو على 90 مليار دولار سنوياً، وما يزال ينمو باضطراد، ما يؤهلها مستقبلاً أن تتفوق عوائدها من التكنولوجيا الهندية وغيرها على ما يعود لأهل الجزيرة العربية مجتمعةً من ثرواتهم البترولية، التي تشهد انخفاضاً هائلاً في عوائدها وتواجه مستقبلاً مختلفاً، بعد أن حصلت مفاجآتٌ كبرى، باكتشافات النفط الصخري في بلدان عديدة، ستقلل من أهمية قطاع البترول العربي بشكل كبير. ووادي السليكون الهندي لا يحمل دلالة جغرافية، وإنما تقنية، ويختلف بالطبع في شكله ومعناه عن وادي الدواسر السعودي، أو وادي النطرون المصري.
والصين بلد اللَّادين وخليط من نظم المعتقدات الكنفوشيوسية والبوذية والطاوية، وثورة ماو تسي تونج الثقافية الملحدة، قاد فيها التراكم التاريخي لثقافة حب العمل والاجتهاد والحرفية في الصنعة إلى طفراتٍ هائلةٍ مكَّنت الصين من ترويض العالم لأن يتقبلها قوةً عظمى بخصوصياتها السياسية والاجتماعية، ونموها الاقتصادي الذي يعد الأسرع على الإطلاق.
والبرازيل التي تحمل ذاكرة القادمين من أرض الغال، وفيها خليط بشري متعدّد المشارب، وقبائل الأمازوناس البدائية العارية تفخر، اليوم، بأن أصبحت تاسع أكبر اقتصاد، ومرشحة لأن تصبح إحدى أهم الدول الكبرى، ورائدة في قارة عبرت من مرحلة الدكتاتوريات العسكرية الفاسدة نحو مجتمعاتٍ تطبق النهج الديمقراطي بخطوات موضوعية.
كل تلك الدول المصنفة بالنامية وغيرها تُعد من النماذج الرائدة اليوم، وتشكل نواة العالم الجديد… بينما تظهر على العرب أعراض الإصابة بالتخثر والضمور الحضاري بشكل مفجع، فتتراجع أسماء المفكرين، وتتلاشى مقومات النهضة الفكرية والتنويرية، ليُفسَح المجال للثقافات المتطرفة، وتوظيف الدين في الاستقطابات السياسية، وفي الصراعات المتعدّدة.
ومع ذلك كله، لا توجد مواقف موحدة حيال هذا المشهد العربي، على الرغم من وجود وعي عميق بالمخاطر المحدقة، في حال استمر هذا البؤس الرهيب، واستمر الانصراف أو التلكؤ عن البدء بالتفكير العملي لإصلاح الخطاب الإسلامي، والاجتهاد من أجل التغيير، والتجديد داخل الفكر الديني التقليدي الذي ترسّب وتجمد منذ قرون، فالعرب وحدهم معنيون بإنقاذ تاريخهم ودينهم وحياتهم وحقوقهم، والحفاظ على مواردهم ومستقبل أجيالهم، والنهوض من أجل المستقبل، واللحاق بالركب الحضاري. ولا تأتي البداية إلا بتحرير العقل أولاً، وتنشئة القيم الحديثة، بالإضافة إلى الكف عن تحميل الآخرين بشكل مطلق كل هذه العثرات الكبيرة… فلا يجوز أن يعود العرب إلى الماضي، بينما يذهب العالم نحو المستقبل.
وعلى الرغم من أن أجزاءً مضيئة من تاريخ الأمة العربية تركت أثراً عميقاً في النهضة الإنسانية الحديثة، وأن الدين الإسلامي الحنيف كان، وما يزال، الهوية الجامعة التي كانت سبباً في النهضة العربية الإسلامية في قرونٍ سابقة، إلا أن للحاضر مرتكزات مرتبطة بالتطورات الكبيرة للعلوم والمعارف وتطبيقاتها المختلفة، وما رافقها من تغييراتٍ عميقةٍ في المجتمعات الانسانية. ومن هنا، يمكن الإدراك الحقيقي لمبرّرات السؤال حول ماضوية العرب، أو ماضوية العقل العربي، وضيقهم بالحاضر الذي يرونه عهد الانكسارات الكبيرة والتخلف عن ركب الأمم الأخرى. وعوضاً عن الكشف عن المسببات الحقيقية، يذهب العرب باتجاه الماضي، في رحلةٍ معنويةٍ مشوبةٍ بملابساتٍ ومخاطر كثيرة.
تكمن البداية في الاعتراف بأن هناك ضرورات تحتم الدعوة إلى تحرير العقل العربي، باعتباره القاطرة التي يمكن لها أن تأخذ المجتمعات العربية خارج واقعها الحالي، والاعتراف بالضرورات إشارة واضحة إلى أن العقل العربي يعيش، بالفعل، أزمة كبيرة تتطلب الوقوف أمامها بكثير من البحث والاجتهاد.
يتفق كثيرون على أن العقل العربي يواجه معضلات مختلفة، متعلقة، في المقام الأول، بالتفسيرات السائدة والمتشدّدة لبعض "المسبَّقات" الروحية والتاريخية، وعدم إيجاد وعي متصالح مع المفاهيم المعاصرة للحضارة البشرية بشكل عام، خصوصاً التفسيرات التي تعمل على وضع العقل بشكل مطلق تحت الإملاءات المختلفة والمتناقضة أحياناً.
لقد بدأ تقييد العقل العربي منذ زمن بعيد، بتطويقه بالمحدّدات الدينية الصارمة، وسلب إرادته
أدركت الهند، بلاد الآلهات المتعددة والقوميات والخرافة، أن "الفجور الحقيقي لا يكمن في إطلاق الدراما الإباحية ( كاما سوترا)"، لكنه يكمن في الجوع والحروب العبثية. وللهند أن تفخر اليوم بالمعقل العالمي للمجمعات الصناعية في البنغالور/ وادي السليكون، وبأن دخلها من صادرات تقنيات المعلومات والبرمجيات (وحدها) يربو على 90 مليار دولار سنوياً، وما يزال ينمو باضطراد، ما يؤهلها مستقبلاً أن تتفوق عوائدها من التكنولوجيا الهندية وغيرها على ما يعود لأهل الجزيرة العربية مجتمعةً من ثرواتهم البترولية، التي تشهد انخفاضاً هائلاً في عوائدها وتواجه مستقبلاً مختلفاً، بعد أن حصلت مفاجآتٌ كبرى، باكتشافات النفط الصخري في بلدان عديدة، ستقلل من أهمية قطاع البترول العربي بشكل كبير. ووادي السليكون الهندي لا يحمل دلالة جغرافية، وإنما تقنية، ويختلف بالطبع في شكله ومعناه عن وادي الدواسر السعودي، أو وادي النطرون المصري.
والصين بلد اللَّادين وخليط من نظم المعتقدات الكنفوشيوسية والبوذية والطاوية، وثورة ماو تسي تونج الثقافية الملحدة، قاد فيها التراكم التاريخي لثقافة حب العمل والاجتهاد والحرفية في الصنعة إلى طفراتٍ هائلةٍ مكَّنت الصين من ترويض العالم لأن يتقبلها قوةً عظمى بخصوصياتها السياسية والاجتماعية، ونموها الاقتصادي الذي يعد الأسرع على الإطلاق.
والبرازيل التي تحمل ذاكرة القادمين من أرض الغال، وفيها خليط بشري متعدّد المشارب، وقبائل الأمازوناس البدائية العارية تفخر، اليوم، بأن أصبحت تاسع أكبر اقتصاد، ومرشحة لأن تصبح إحدى أهم الدول الكبرى، ورائدة في قارة عبرت من مرحلة الدكتاتوريات العسكرية الفاسدة نحو مجتمعاتٍ تطبق النهج الديمقراطي بخطوات موضوعية.
كل تلك الدول المصنفة بالنامية وغيرها تُعد من النماذج الرائدة اليوم، وتشكل نواة العالم الجديد… بينما تظهر على العرب أعراض الإصابة بالتخثر والضمور الحضاري بشكل مفجع، فتتراجع أسماء المفكرين، وتتلاشى مقومات النهضة الفكرية والتنويرية، ليُفسَح المجال للثقافات المتطرفة، وتوظيف الدين في الاستقطابات السياسية، وفي الصراعات المتعدّدة.
ومع ذلك كله، لا توجد مواقف موحدة حيال هذا المشهد العربي، على الرغم من وجود وعي عميق بالمخاطر المحدقة، في حال استمر هذا البؤس الرهيب، واستمر الانصراف أو التلكؤ عن البدء بالتفكير العملي لإصلاح الخطاب الإسلامي، والاجتهاد من أجل التغيير، والتجديد داخل الفكر الديني التقليدي الذي ترسّب وتجمد منذ قرون، فالعرب وحدهم معنيون بإنقاذ تاريخهم ودينهم وحياتهم وحقوقهم، والحفاظ على مواردهم ومستقبل أجيالهم، والنهوض من أجل المستقبل، واللحاق بالركب الحضاري. ولا تأتي البداية إلا بتحرير العقل أولاً، وتنشئة القيم الحديثة، بالإضافة إلى الكف عن تحميل الآخرين بشكل مطلق كل هذه العثرات الكبيرة… فلا يجوز أن يعود العرب إلى الماضي، بينما يذهب العالم نحو المستقبل.