هل اخترق العنصريون الإعلام الألماني؟

15 ديسمبر 2016

مظاهرة لحركة بيغيدا العنصرية في دريسدن (6/2/2016/Getty)

+ الخط -
في حين كان الإسلاموفوبيون العنصريون في الماضي يجتهدون في إيجاد مبرّرات منطقيةٍ لاتهام هذه الجماعة أو تلك، أصبحوا اليوم، في وقتٍ خَفَتت فيه أصوات العقلاء والمُنصفين، لا يكلفون أنفسهم هذا العناء، ويتخبّطون خبط عشواء، في جمع ما لا يُجمع من التهم التي يكيلونها للمسلمين بالمجان من دون تعقيب. وقد أصبح هذا الفكر، أخيراً، يتسرّب بسهولةٍ إلى الإعلام سهواً وعمداً، فنجد أحد المحسوبين على الصحافة، مثلاً، دأب على تقديم نفسه خبيراً في الإسلاموية والتطرّف، يتهم في قناة عمومية جمعيةً إسلامية بالانتماء إلى "الإخوان المسلمين" والسلفية في آن واحد. فيمُرُّ دَجَلُه من دون أن يكترث أحدٌ لسخافة ادّعائه، ولا لضحالة علمه في هذا الشأن. وفي ظل حالة الاستقطاب الحاد التي يشهدها الغرب اليوم، فإن مثل هذا التدليس يسري مفعوله كالبرق، فيمن يَسهُل استغفالهم والاستخفاف بعقولهم من قرّاء الصحف الشعبية الشعبوية التي تُشكل، إلى جانب القنوات التجارية المبتذلة المصدر الإخباري الوحيد لفئةٍ واسعةٍ من المجتمع الألماني.
ليس المسلمون المتطرّفون هم المستهدفين من حملة الإسلاموفوبيين العنصريين، إنما المستهدفون هم المسلمون الوسطيون بالدرجة الأولى. فصورة المسلم المؤمن بقيم الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان، المنسجمة مع الدستور الألماني، لا تتناسب ألبتة مع الصورة النمطية المَشِينة للإسلام التي يحرص هؤلاء على إشاعتها، واستغلالها للنفخ في شبح الإرهاب الإسلاموي لنشر الخوف، والحقد على حساب السلم المُجتمعي. ويشتدّ هذا الاستهداف شراسةً وقوةً، إذا كان خصوم هؤلاء من المسلمين الناجحين ذوي الحُظوة والتأثير في المجتمع والسياسة. فقد عَلَت، في الآونة الأخيرة، أصوات المتربصين بهؤلاء المسلمين الدوائر، كان آخر من اكتوى بنارهم السياسيةُ المسلمة ذات الأصول الفلسطينية، سوسن شِبلي، نائبة المتحدث باسم وزارة الخارجية الألمانية سابقاً، إذ تعرّضت لانتقادٍ لاذع، لقولها، في حوار لها، مع
صحيفة "فرانكفورتر الجماينه" في الثالث من أغسطس/ آب "إن الشريعة متوافقة تماماً مع الدستور الألماني"، ليكون ذلك سبباً كافياً ليطالب الغُلاة بطردها من منصبها الحالي، عقب تعيينها في الثامن من هذا الشهر عضواً في حكومة ولاية برلين. وقبل شِبلي بأسابيع قليلة، قامت الدنيا ولم تقعد على السياسية أيْدِن أوغُوز، ذات الأصول التركية، مفوّض الحكومة الاتحادية لشؤون الهجرة واللاجئين والاندماج، لأنها طالبت الدولة "باستخدام قدرٍ كبير من التبصُّر في التعامل مع المتطرّفين المسلمين". هذا ناهيك عما يتعرّض له ممثلو المسلمين في منظماتهم المختلفة من تنكيلٍ إعلامي ممن يمتهنون الصيد في الماء العكر، من دون أن يعبأ أحدٌ بحجم الضرر الذي يُلحَق بهم وبمؤسساتهم.
ويزيد الوضع حرجاً أن يطاول تأثير العنصريين والإعلام المنحاز مؤسّسات الدولة أيضاً، حتى بات يخيل إلى بعضهم أن ليس ثمة أمر أسهل من أن يوضع المسلمون تحت مراقبة المخابرات التي لم تفلح، كما يدّعي أصحاب نظرية المؤامرة، إلا في تعقب الجمعيات والمنظمات الإسلامية، وغضّت الطَّرْفَ عن الجماعات العنصرية الألمانية التي عاثت في الأرض فساداً سنوات طويلة، حتى ازهقت أرواح أزيد من عشرة أجانب، أغلبهم مسلمون، فيما يعرف، سياسياً وإعلامياً، بقضية "أنْ أسْ أو". وهذا الشعور السائد كفيل بأن يجعل بعضاً من شباب المسلمين يفقد ما تبقى لديه من الثقة في نزاهة دولة الحق والقانون وحيادها، ويعتقد أن المسلمين مواطنون من الدرجة الثانية، منبوذون غير مرغوب فيهم في مجتمعٍ ما انفكّ يُلصق كل نقيصةٍ ودنيئةٍ بدينهم، فيتقمص دور الضحية، ليكون، بعد ذلك، عرضةً للسقوط بسهولةٍ في مصائد الجماعات الإرهابية التي تترّبص بهم. وعندما تدمر الثقة المبنية بشق الأنفس على مدار سنين طويلة، وتغلق القنوات المفتوحة مع المسلمين الحريصين على الشفافية والحوار، تكثر "الخفافيش"، ويرتفع مستوى العمل في الظلام لدى الغلاة والمتطرفين من كل الأطراف.
كان للإعلام الغربي المنحاز دور لا يقل أهميةً عن الإجراءات المدنية والعسكرية التي جاءت على إثر إصدار حكومة جورج بوش الابن قانون "باتريوت أكت"، نتيجة الهوس الأمني في أعقاب أحداث "11 سبتمبر" في العام 2001 ، وما تلاها من إجراءاتٍ مماثلةٍ في كل الدول الداعمة لها، أدّت جُلّها إلى تقييد الحقوق والحريات، وإطلاق يد الأجهزة الأمنية، واستباحة
المواثيق الدولية، ووضع المسلمين، بصفةٍ عامة، في قفص الاتهام. فقد شن هذا الإعلام حرباً موازيةً، ما فَتِئ يقرع طبولها بكل قوة، حتى أصبح المسلمون في الولايات المتحدة، ودول الاتحاد الأوروبي، يحتلون حيزاً مهماً في الدعايات الانتخابية، تتنافس الأحزاب التي باتت تميل إلى اليمين، في قضاياهم، أيها أكثر جرأةً على النيْل من حقوقهم، وممارسة التمييز ضدهم. فإذا كانت الأحزاب تختلف، في هذا الشأن، في مستوى التصعيد، حسب السقف الذي تسمح به إيديولوجياتها، ومدى قابلية مُمثليها للنفاق والدجل السياسي، فإنها كلها تتفق في النظر إلى المسلمين شماعة متعدّدة الاستخدامات، تصلح، في كل الأحوال، لتعليق كل الأزمات الاجتماعية وإخفاقات السياسات الداخلية عليها، حتى أَضْحى خطاب بعض الساسة المحسوبين على الأحزاب الديمقراطية الكبرى مُنحطّاً إلى أسفل درجات الشعبوية، يفوق حدة، في بعض الأحيان، على شعبوية اليمين المتطرّف.
إن استغلال دعاة الحقد والكراهية منابر الإعلام، خصوصاً العمومية منها، أداةً لنشر الإسلاموفوبيا والعنصرية سيسيء إلى سمعة الإعلام الألماني لا محالة، وسيخدش الاحترافية الكبيرة التي يتصف بها هذا الإعلام الذي دأب دوماً على الدفاع عن القيم النبيلة التي بُني عليها الاتحاد الألماني، بُعيد الحرب العالمية الثانية.
30BE0B7F-FB6C-47D5-9BEE-A6E981F2E3E9
30BE0B7F-FB6C-47D5-9BEE-A6E981F2E3E9
عبد الكريم أهروبا

كاتب مغربي يقيم في ألمانيا، عضو في الاتحاد الألماني للصحفيين الأحرار

عبد الكريم أهروبا