هلوسات جفاف..

23 اغسطس 2015
لكنّ الماء تسرّب وضاع (Getty)
+ الخط -
(1)
بعد نهارٍ حارٍّ جداً.. تسكنني سخونة الأرض وعطشها.. فأتلوّى كأفعى تحت سياط الحرّ، ويزداد الأمر سوءاً مع ارتفاع حرارتي، فأجدني أسيرة هلوسات وكوابيس.. لا أملك أن أغسلني بالماء، فلا فائض منه سيشفع لي استخداماً مفرطاً كهذا.. هي حرارة وستمرّ.. أو لا تمرّ، ليتها تعطلني عن هذه الحياة.. مع كلّ شهقة ترسلها روحي العطشى أظنّها الأخيرة، ولمّا أزل موصولة بهذه الحياة البائسة..


صباحاً ثمّة نتوءٌ كبيرٌ على شفتي.. أخبرتني والدتي بأنّها قبلة من السخونة، إذن.. للسخونة قبلتها الحارّة المقيّدة ضدّ مجهول!

(2)
أستيقظ كل يوم على ذات الجلبة التي أنام عليها.. طابورٌ طويل يقف بانتظار رشفة ماء..
أحد الأشخاص يرفع يديه داعياً، بنزول المطر، تجمّع حوله الأطفال، وقفتُ على حافة الشرفة أؤمّن على الدعاء.. طفلٌ صغير سأله: يا عمّ هو الله الذي تدعوه.. يرانا.. فلمَ يسمح لهم بقطع الماء عنّا!!؟

لم يعره الشيخ اهتماماً.. أشار له أن يرفع يديه ليدعو معه.. رفعت يدي.. ونظرت إلى السماء.. اصطدمت عيناي بعين الشمس، سخرت مني، وقالت: ما من مطر..

ولكنني أوقن بأنّ للمطر وعداً لن يتأخرّ!
سقاياك يا مطرّ!

(3)
صوتك تفصيل صباحي.. يعادل حضوره اليوم كلّه..
يوميّاً يسرّب لي الهدوء، وهو ينسكب في ظلّ هذه الفوضى، اليوم أكاد لا أفهم أيّ حرف منك، ولكنّني أجيب بتلقائية: صباحي أنت.. سقيت روحي.. أحبك!

لم أنتبه اليوم إلى أنّك لم تتصل لتردد على مسامعي هلوسات الحب تلك، وأنّك كنت بحاجة ماسة إلى رقم صاحب "خزان الماء" الذي من المفترض أنّه قد منحنا نعيماً مائيّاً البارحة!

كنت كالبلهاء أكرر كلمات الشوق وسط صياح العطاش أسفل بيتنا.. وصلتني رسالة منك: "حبيبتي.. أرسلي رقم صاحب الخزان".

نسيت أن أخبرك بأنّ صاحب الخزان لم يأتِ البارحة، ولن يأتي اليوم، سقطت إحدى شظايا القذائف على سيارة الماء، لم يُصب بأذى كبير.. ولكنّ الماء تسرّب وضاع..!!

حزنت كثيراً على الماء، وقد ذهب سدى..
حزنت على الرجل الجشع أيضاً.. ربّما..!!
المهم هو يحتاج إلى خزان جديد..!!

انتبهت إلى أنني ما زلت أحاول إرسال الرسالة من ساعة.. وأنّ رصيدي قد انتهى، يجب أن أذهب لأملأ رصيدي وأتحدث إليك من مكان هادئ..

(4)
مشكلة أخرى نبتت الآن.. لا يوجد ماء في هذا البيت الجاف.. كنت في غمرة بلاهتي الصباحية قد نسيت أنني أنهيت آخر قطرة من الماء في تنظيف فناجين القهوة المتراكمة..

لا ماء لأغسل وجهي الذي تحدى الشمس منذ قليل، وأخبرها بغباء شديد بأنّها ستمطر..
لا ماء لأنظف أسناني، وفمي الذي ما زالت تفوح رائحة الحبّ والعطش منه..
لا ماء لأغسل عنّي الحرارة التي طبعت قبلةً على شفتي ليلاً..
لا ماء لأصنع قهوة..
لا ماء.. لا ماء!!

سعيت بالبيت سبعة أشواط.. أصعد نحو كلّ ما هو مرتفع أبحث عن شيء ما قد اختبأ هناك.. وأنزل لأبحث في زوايا المنزل..

طفت حول اللاشيء في غرفتي أفكر بحلٌّ ما..
أخيراً.. جلست إلى حافة سرير أخي أستجديه وسيلة لجلب ماء..!

(5)
في الطريق ثمّة وهج يفوق قدرة الأرض العطشى على الاحتمال.. وأنا أخطو وألعن الشمس همست الأرض في أذني المعلّقة بالفضاء: أخبريهم أنّي سأجفّ.. أخبريهم أن يكفوا عن حلب ضرعي، فأنا آيلة للموت!

ضحكت منها بسخرية: كلّنا سنموت.. وسنعود إليك!
وكأن الموت سمعني أهذي باسمه، فارتطم بي، وهو يخوض حربه الشرسة مع الحياة، رصاصة متفجرة عبرت بالقرب مني، سقطت على مسافة قريبة، أحدثت انفجاراً في أحد الأوعية التي كان رجل عجوز ينتظر أن يملأه بالماء، لم يصب أحد بأذى.. سخرت من الموت.. وحمدت الحياة على تفوّقها هذه المرّة!

(6)
كلّ أشجار الياسمين التي طفت بها في حارات حلب حزينة.. كانت تعاني جفافها الذي لا يبكيه أحد، فلا ماءَ فائضاً تُسقى به!

زهراتها البيضاء تتفتح على خجل، من دون عطر، لم تستطع أن تفرد بياضها، كانت منكمشة على نفسها، وكأنّها محض خربشات بقلم رصاص، لذلك لم تكن تتساقط أرضاً حتى تأكل الشمس كلّ حياة فيها، أظنّها كانت خجلى من سقوطٍ مرٍّ لا جمال فيه!

(7)
كان العرق يرشح من جسدي كشلال، كنت مغسولة بكلّي.. لوهلة تخيلتني نبع ماء، يفيض مع كلّ إشراقة شمس، ويأتي إليّ الجميع، يلوذون بجسدي النبي، الذي حقق معجزة الماء!

ولكنني شعرت بالدوار، مددت يدي إلى حقيبتي التي كانت دائماً تحتوي على عبوة ماء، غير أنّ العبوة كانت فارغة!
كان أمامي منهل ماء، وقفت أجرّب صوت الذلّ المائي الذي يصرخ في أرواح كلّ من يقف على الطابور، وقفت أتعرّف لوناً جديداً.. ولكنّ يدك امتدت إليّ وحملتني من بين الجموع وقدمت لي حضناً عميقاً، وماءً مثلجاً!

(8)
على مسافة ليست بالبعيدة، ولكنّها مستحيلة، كانت قلعة حلب ما زالت تجلس على عرشها، كانت تبدو متعبة، بدأت التشققات والتجاعيد تعلو روحها، كانت ترشح غباراً.. وتتنفس حزنها بسأم!
أخبرتك بأنني أتمنى أن نكون هناك الآن.. حملتني بين ذراعيك، وكنا في لحظة كخفقة هناك، نشهد حلب كلّها من جميع الجهات..

رأينا في ما رأينا مئذنة الجامع الأموي مفصولة عنه، ولكنّها كانت تهرول نحوه، وهي تشرع أذانها لعناق!
رأينا أيضاً أسواق المدينة تعجّ بالأصوات والبضائع..
رأينا.. ورأينا.. وكانت شفتاك ترسم لي قبلةً حارّةً أيضاً..
بينما كان المطر يسقي العطاش.. ويطفئ الحرب!

(9)
استيقظت على صوت نهيم فيل طائر! نعم ثمّة ههنا فيلة تطير، وتسقط بكلّ جسدها ويتطاير منها الموت، ليحصد أجساداً نامت وهي تحلم بحمام بارد!

ويااااا للسخرية حتى الشهيد من هؤلاء الحالمين، لن يحظى بالحمّام البارد ذاك! فالشهيد لا يغسّل ولا يكفّن!

دقائق.. وسقطت قذيفة قريبة جداً، هرعت إلى الشرفة لأستطلع الوجع الذي مدّ رأسه بالعويل.. سقطت القذيفة بالقرب من منهل الماء.. شهيد.. شهيد آخر.. إنّه طفل.. كان قد ملأ كلّ عبواته، ويهمّ بالمضيّ نحو بيته بفرح!

إنّه هو ذاك الصبيّ الذي سأل الشيخ صباحاً عن الله العالِم، القادر على إيقاف كلّ هذا!
ها هو قد سقط الآن.. وسيذهب إلى الله وهو شهيد الماء!
وسيخبره بكلّ شيء!

(سورية)

المساهمون