31 أكتوبر 2024
هكذا تحدث ابن خلدون عن بلادنا
اعلم أن الجباية (الرسوم) على الناس في بداية نشأة الدولة تكون قليلة، وفي آخر الدولة تكون كثيرة. والسبب أن الدولة، إن كانت قائمةً على الدين، فليست تأخذ من الناس إلا المغارم الشرعية من الصدقات والزكاة والخراج والجزية... أو تكون الدولة قامت ونشأت بالتغلب والعصبية، وفيها البداوة، والبداوة تقتضي المسامحة والمكارمة والتغافل عن أموال الناس.
وإذا قلّت الجباية على الرعايا، نشطوا للعمل ورغبوا فيه، فتكثر التنمية ويزدهر الاقتصاد، لقلة المغرم عليهم وحصول الفائدة لهم، فتكثر الوظائف، ويكثر خراج الدولة. فإذا استمرت الدولة واتصلت، وذهب منها سر البداوة وخُلُقها من الإغضاء والتجافي، وجاء المُلك العضوض والحضارة، وتخلّق أهل الدولة حينئذٍ بخلق التحذلق، وكثرت مصاريفهم، بسبب ما انغمسوا فيه من النعيم والترف، فيكثرون الجباية حينها على الرعايا والفلاحين وسائر أهل الأعمال، ويزيدون في كل وظيفة مغرماً لتكثر لهم الجباية، ويضعون المكوس والرسوم على المبايعات، ثم تتدرّج الزيادات فيها بمقدار بعد مقدار، لزيادة نفقات الدولة في الترف وكثرة الحاجات والإنفاق بسببه، حتى تثقل المغارم على الرعايا، فتقل رغبة الناس عن العمل إلى ذهاب الأمل من نفوسهم بقلة النفع، إذا قارن بين نفعه ومغارمه، فتنقبض كثيرٌ من الأيدي عن العمل جملة، فتنقص بسبب ذلك جباية الخراج (تعجز الميزانية)، وربما يزيد ذلك في آخر الدولة (الجباية) زيادة بالغة. ويستحدث صاحب الدولة أنواعاً من الجباية، يضربها على المبيعات، ويفرض لها قدراً معلوماً على الأثمان في الأسواق، وعلى أعيان السلع في أموال المدينة، فتكسد الأسواق لفساد الآمال، ويؤذن ذلك باختلال العمران، ويعود على الدولة، ولا يزال ذلك يتزايد إلى أن تضمحل. وهو مع هذا مضطرٌ لذلك، بما دعاه إليه طرق الناس من كثرة العطاء (الرواتب) من زيادة الجيوش والحامية، وقد وقع منه بأمصار المشرق في أخريات الدولة العباسية والعبيدية كثير، وفرضت المغارم على الحجاج. وأسقط صلاح الدين أيوب تلك الرسوم جملةً، وأعاضها بآثار الخير، وكذلك وقع بالأندلس لعهد ملوك الطوائف، حتى أزال ذلك يوسف بن تاشفين أمير المرابطين.
بقليلٍ من التصرّف، نقلت شيئا مما قاله ابن خلدون في مقدمته الشهيرة، وكأني به يصف حالنا
وأحوالنا، وكأنه يعيش بيننا، ولعل في ما نقل أعلاه ما يفتح عقول أصحاب القرار وقلوبهم، ليس في الأردن فحسب، بل ربما جل بلادنا العربية، فيعيدوا النظر خصوصا في ما فرضوه، أخيرا، من ضرائب متوحشة، طاولت حتى الحصر البلاستيكية التي يستعملها الفقراء والمعدمون، واستثنت الجواهر والألماس وبعض مشغولات الذهب.
والحقيقة التي لا تخطئها العين، أن بلادنا اليوم في بؤرة الخطر، بعد أن وصلت أو كادت إلى حافة الانفجار. ومن يطلع على دواخل الناس، يضع يده على قلبه، لفرط ما هم فيه من عنت وقهر وسوء، ولا أصدق في كشف أهواء القوم، وما يطوونه في صدورهم من استطلاعات الرأي، حيث تظهر الدراسة الاستطلاعية المسحية التي أجرتها الجمعية الوطنية لحماية المستهلك في الأردن جوانب من الحالة الاقتصادية للمواطنين، تستحق التوقف طويلا، إن لم نعتبرها أصلا ناقوس خطرٍ، على صاحب القرار أن يأخذ نتائجها بالاعتبار لدى التعامل مع التطورات التي أصابت المجتمع!
هدفت الدراسة التي أجريت بإشراف مباشر من رئيس الجمعية، الدكتور محمد عبيدات، إلى معرفة مؤشرات ثقة المستهلك بالأوضاع الاقتصادية والمالية للأفراد والأسر الأردنية، وشملت عينة من 500 شخص من مختلف محافظات المملكة، وأظهرت أن 53.6% من العينة يرون أن مستوى دخل الأسرة من خلال مقارنة الحالة المادية في الوقت الحالي بالعام الماضي يرون أنها الأسوأ، وعن إجابات عينة الدراسة عن الظروف المالية لهم ولأسرهم في الوقت الحالي لإمكانية شراء أجهزة منزلية أو سيارة أو غيرها. ولوحظ أن 73.3% من العينة يعتبرون أن ظروفهم المالية غير مناسبة لشراء أجهزة منزلية أو سيارة أو غيرها.
وفي ما يختص بمؤشر الأوضاع الاقتصادية، لوحظ أن 7.6% من العينة يعتبرون أن فرص العمل أفضل في الأردن بشكل عام، و61.8% من العينة يعتبرون أن فرص العمل أسوأ،
و23.3% من العينة يعتبرون أن فرص العمل كما هي. وبخصوص الظروف المعيشية، لوحظ أن 58.5% من العينة يعتبرون الظروف المعيشية أسوأ من السابق، و31.5% من العينة يعتبرونها كما هي. كما تؤكد النتائج وجود احتمالات كبيرة لسقوط شرائح كبيرة من الأسر في بؤر الفقر. أما بخصوص توقعاتهم للعام 2017 أن يكون أفضل أو أسوأ، من حيث الأوضاع الاقتصادية، فأفادت الدراسة بأن 61.5% من العينة يعتبر أن الأوضاع الاقتصادية أسوأ من السابق، و8.3% من العينة يعتبرون أن الأوضاع الاقتصادية كما هي الآن، وأرجع هؤلاء سبب توقعهم الأسوأ إلى ارتفاع الأسعار، بوصفه أكثر أسباب سوء وضع الاقتصاد الأردني، إضافة إلى قلة فرص العمل وزيادة البطالة.
هذه بعض نتائج الدراسة الميدانية المهمة التي أجرتها جمعية حماية المستهلك، وما ذكر هنا لا يغني عن دراسة النتائج كاملة، لمعرفة توجهات المواطنين الحقيقية، وتقويماتهم الأوضاع الاقتصادية الحالية، وهو أمر في غاية الأهمية، كي لا يفاجأ صاحب القرار بحدوث مضاعفاتٍ لا تحمد عقباها على كل الصعد.
كلنا يعلم أن هناك أوضاعا اقتصادية صعبة يعاني منها البلد، بل قد تمتد هذه الأوضاع إلى بلدان أخرى مجاورة، لها مثل ما لنا من مشكلات، لكن الاختلاف هنا في مدى قدرتنا على استيلاد حلول ذكية لهذه المشكلات، من دون أن ينعكس هذا بشكل حاد وخطير على طبيعة مشاعر الناس التي لم يعد بإمكانها تحمل مزيد من الضغط.
وهكذا يتفق ابن خلدون وجمعية حماية المستهلك الأردنية في وصف الحال، رقميا وتحليليا، وأنا على ثقة من أن أيا من أصحاب القرار في بلادنا لن يقرأ لا ابن خلدون ولا غيره، ولن يعتبر أحد بما جرى في غابر الأيام.
بقليلٍ من التصرّف، نقلت شيئا مما قاله ابن خلدون في مقدمته الشهيرة، وكأني به يصف حالنا
والحقيقة التي لا تخطئها العين، أن بلادنا اليوم في بؤرة الخطر، بعد أن وصلت أو كادت إلى حافة الانفجار. ومن يطلع على دواخل الناس، يضع يده على قلبه، لفرط ما هم فيه من عنت وقهر وسوء، ولا أصدق في كشف أهواء القوم، وما يطوونه في صدورهم من استطلاعات الرأي، حيث تظهر الدراسة الاستطلاعية المسحية التي أجرتها الجمعية الوطنية لحماية المستهلك في الأردن جوانب من الحالة الاقتصادية للمواطنين، تستحق التوقف طويلا، إن لم نعتبرها أصلا ناقوس خطرٍ، على صاحب القرار أن يأخذ نتائجها بالاعتبار لدى التعامل مع التطورات التي أصابت المجتمع!
هدفت الدراسة التي أجريت بإشراف مباشر من رئيس الجمعية، الدكتور محمد عبيدات، إلى معرفة مؤشرات ثقة المستهلك بالأوضاع الاقتصادية والمالية للأفراد والأسر الأردنية، وشملت عينة من 500 شخص من مختلف محافظات المملكة، وأظهرت أن 53.6% من العينة يرون أن مستوى دخل الأسرة من خلال مقارنة الحالة المادية في الوقت الحالي بالعام الماضي يرون أنها الأسوأ، وعن إجابات عينة الدراسة عن الظروف المالية لهم ولأسرهم في الوقت الحالي لإمكانية شراء أجهزة منزلية أو سيارة أو غيرها. ولوحظ أن 73.3% من العينة يعتبرون أن ظروفهم المالية غير مناسبة لشراء أجهزة منزلية أو سيارة أو غيرها.
وفي ما يختص بمؤشر الأوضاع الاقتصادية، لوحظ أن 7.6% من العينة يعتبرون أن فرص العمل أفضل في الأردن بشكل عام، و61.8% من العينة يعتبرون أن فرص العمل أسوأ،
هذه بعض نتائج الدراسة الميدانية المهمة التي أجرتها جمعية حماية المستهلك، وما ذكر هنا لا يغني عن دراسة النتائج كاملة، لمعرفة توجهات المواطنين الحقيقية، وتقويماتهم الأوضاع الاقتصادية الحالية، وهو أمر في غاية الأهمية، كي لا يفاجأ صاحب القرار بحدوث مضاعفاتٍ لا تحمد عقباها على كل الصعد.
كلنا يعلم أن هناك أوضاعا اقتصادية صعبة يعاني منها البلد، بل قد تمتد هذه الأوضاع إلى بلدان أخرى مجاورة، لها مثل ما لنا من مشكلات، لكن الاختلاف هنا في مدى قدرتنا على استيلاد حلول ذكية لهذه المشكلات، من دون أن ينعكس هذا بشكل حاد وخطير على طبيعة مشاعر الناس التي لم يعد بإمكانها تحمل مزيد من الضغط.
وهكذا يتفق ابن خلدون وجمعية حماية المستهلك الأردنية في وصف الحال، رقميا وتحليليا، وأنا على ثقة من أن أيا من أصحاب القرار في بلادنا لن يقرأ لا ابن خلدون ولا غيره، ولن يعتبر أحد بما جرى في غابر الأيام.