شهد خريف العام 2014 بالتزامن مع الأعياد اليهودية، تصعيداً إسرائيلياً غير مسبوق في السماح لمجموعات كبيرة من اليهود المتدينين باقتحام المسجد الأقصى بشكل متزايد، مع مساع لتكريس وضع من التقسيم الزماني والمكاني في المسجد الأقصى. وقد برز هذا التوجّه بشكل جلي من خلال تصريحات متزايدة لوزراء في حكومة الاحتلال بهذا الاتجاه، كانت أبرزها تصريحات كل من وزير الزراعة الإسرائيلي آنذاك، من حزب "البيت اليهودي"، أوري أريئيل، ووزيرة الثقافة والرياضة ميريت ريغيف، من جهة، ومن خلال تكثيف مجموعات ومنظمات "إعادة بناء الهيكل" على مختلف مشاربها تنظيم اقتحامات لباحات المسجد الأقصى، مع كسر القيود الرسمية المعلنة، وأداء شعائر دينية يهودية في باحات الأقصى من جهة ثانية.
أدت هذه المحاولات المتكررة، مع ما رافقها من القمع والتضييق المتزايد على الفلسطينيين في القدس تحديداً، إلى اندلاع عمليات مقاومة وعمليات فدائية فردية، سواء عمليات طعن، أو عمليات دهس، تمت خلالها محاولات لمهاجمة جنود الاحتلال والمستوطنين، ليس فقط في القدس بل أيضاً في مناطق مختلفة من الضفة الغربية المحتلة، ولا سيما في منطقة بيت لحم والخليل وعند مفترق الكتلة الاستيطانية "غوش عتصيون".
ومع بدء هذه العمليات، حاولت أجهزة الأمن الإسرائيلية جهدها لمنع الصحف الإسرائيلية من إطلاق تعبير "انتفاضة ثالثة" أو انتفاضة سكاكين، أو انتفاضة الأفراد، كي تبقى مجرد أحداث متفرقة ولا تشكل في الوعي الإسرائيلي أو الفلسطيني ظاهرة واسعة، بل أحداثاً متفرقة يمكن القضاء عليها، ووصفها باستمرار بأنها عمليات فردية يعود قسم كبير منها، بحسب الادعاءات الإسرائيلية (التي سادت في تلك الفترة، من خلال ما بدا أنه جزء من حرب نفسية)، إلى مشاعر الإحباط لدى منفذي العمليات، وأحياناً لأسباب ومشاكل عائلية تدفع هؤلاء الشبان والشابات إلى محاولة طعن جنود ومستوطنين، طمعاً في "موت بطولي"، بحسب ادعاءات الاحتلال.
وشهدت الفترة التي امتدت بين مطلع العام 2015 وحتى أواخر 2017، ووقعت فيها أكثر من مائة عملية أوقعت 200 شهيد فلسطيني، إلى جانب مقتل نحو 50 مستوطناً إسرائيلياً، سياسة إسرائيلية واضحة اعتمدت الإعدامات الميدانية المباشرة ضد منفذي العمليات سواء كانوا من الشباب أو الفتيات، تحت الادعاء أنهم شكلوا خطراً على حياة الجنود أو المستوطنين. وقد اتضح باستمرار كذب هذا الادعاء وأن الحديث هو عن سياسة معتمدة لردع الآخرين وخوفاً من امتداد النيران تحت أقدام الاحتلال وتحوّل العمليات من عمليات فردية، (إذ أكدت تحقيقات الاحتلال بعد هذه العمليات، أن منفذيها لم يكونوا من أبناء أي من الفصائل الفلسطينية)، إلى انتفاضة شعبية عارمة.
وشكّلت عملية إعدام الشهيد عبد الفتاح الشريف في مارس/ آذار 2017 وتوثيقها من قبل متطوع فلسطيني لدى مركز "بتسيلم" الإسرائيلي لحقوق الإنسان، دليلاً دامغاً على وجود سياسة الإعدامات الميدانية لمنفذي العمليات حتى لو كانوا يحملون سلاحاً أبيض، وهو ما منح تلك الفترة اسم انتفاضة السكاكين. وسبق أن أثبتت ذلك حالات عدة، مثل استشهاد الفتاة هديل عواد في القدس بعد إطلاق الرصاص عليها وتأكيد قتلها من قبل شرطي إسرائيلي في نوفمبر/ تشرين الثاني 2014، عندما كانت مع ابنة عمها نورهان عواد ولم تكن تحمل سوى مقص للدفاع عن نفسها. وأكد أمر سياسة الإعدامات الميدانية والسكوت عليها حقيقة قيام قسم التحقيق مع الشرطة بعد عامين بإغلاق الملف ضد الشرطي القاتل كلياً.
لكن إلى جانب سياسة الإعدامات الميدانية، فقد سعت حكومة الاحتلال وأجهزته إلى إيجاد سبل أخرى لمنع تحوّل العمليات الفردية إلى انتفاضة شعبية ثالثة. وفي هذا السياق، كشف تقرير في "هآرتس"، نُشر أمس الجمعة، تصريحات مباشرة ممن كان مسؤولاً في جهاز الشاباك الإسرائيلي في تلك الفترة، إريك باربينغ، تشير إلى الخطط الإسرائيلية التي اتبعت، خصوصاً في مجال مراقبة الشبكات الاجتماعية والصفحات المختلفة على الشبكة العنكبوتية، (الإنترنت)، في مواجهة هذه العمليات ومنع تطورها إلى حالة انتفاضة ثالثة.
وبحسب "هآرتس"، فإن باربينغ كان المسؤول في الشاباك الإسرائيلي (المخابرات العامة) عن قسم السايبر وقبل ذلك المسؤول عن قطاع القدس ككل في جهاز الشاباك. وقد نشر باربينغ بالشراكة مع الضابط أور غليك دراسة مستفيضة في مجلة عسكرية تابعة للجيش الإسرائيلي حلل فيها تلك السنوات وسبل مواجهة العمليات الفردية، معتبراً أن بذور هذه الفترة تعود أصلا إلى العام 2007 والعام 2008 مع العملية الفدائية التي تم فيها إطلاق النار على المعهد الديني "مراكز هراف" في القدس الذي يشكل المعقل الأيديولوجي للصهيونية الاستيطانية الدينية، موضحاً في الدراسة المذكورة، أن البعد الديني، خصوصاً محاولات الاقتحام المتكررة للمسجد الأقصى، تشكل عاملاً أساسياً في ما يسميه "تطرف وراديكالية الشباب الفلسطيني".
وأقر المسؤول الإسرائيلي بأن موجة العمليات الفردية تختلف كلياً عن كل ما كانت إسرائيل تواجهه في سنوات الانتفاضة الأولى (1987 ـ 1993) مثلاً، والثانية (2000 ـ 2005)، من حيث "اختلال الأدوات والسلاح وطرق العمل والخصائص الشخصية لمنفذي العمليات، إذ إن منفذي هذه العمليات في انتفاضة السكاكين، كانوا أصغر عمراً، ومن دون أي انتماء لفصائل فلسطينية، وهو ما شكّل التحدي الأكبر أمام المخابرات الإسرائيلية، لكون هؤلاء غير معروفين من قبل ولا توجد عنهم أي معلومات مسبقة". هذا الأمر "فرض على الشاباك تغيير أنماط عمله السابقة والتقليدية وتبني وسائل عمل وجمع معلومات عن أفراد".
وما زاد من التحدي هو النسبة المرتفعة نسبياً ليس فقط للشباب دون سن العشرين، وإنما أيضا للفتيات اللاتي نفذن عمليات ضد جنود، كما أن ما زاد في حيرة الشاباك هو كون منفذي العمليات من فدائيي هذه المرحلة، أنهم لا يحملون "أيديولوجية إسلامية متطرفة" بل إن نمط حياتهم اليومي كان عادياً بل وحتى علمانياً غير متدين.
بعد هذا، انتقل المسؤول السابق في الشاباك ليعترف بدور الحرب التكنولوجية التي استخدمتها دولة الاحتلال لمواجهة انتفاضة الأفراد، ومحاصرتها، خصوصاً بعدما بدأ الاحتلال ينتبه إلى ما ينشره الفدائيون الذين نفذوا عمليات على صفحاتهم الخاصة قبل الانطلاق لتنفيذ عملياتهم، وهو ما وجّه إسرائيل إلى نقطة لمحاصرة هذه الانتفاضة عبر بدء مراقبة وتطوير برامج تراقب صفحات التواصل الاجتماعي للشباب الفلسطيني، من خلال زرع كلمات مفتاحية، والانتقال من التعامل مع عمل فصائلي منظم لعمل فردي لا عنوان له ولا بصمات واضحة أو معلومات سابقة، خصوصاً أنهم شباب لا سوابق لهم، ولم يسبق أن تم اعتقالهم أو التحقيق معهم. هنا انتقلت إسرائيل من تتبّع النشاط العادي إلى تتبّع النشاط الرقمي للشباب الفلسطيني على شبكات التواصل الاجتماعي والمنصات الرقمية المختلفة.
وكشف باربينغ في دراسته المذكورة، أن جهاز الشاباك الإسرائيلي أعاد في تلك الفترة توجيه موارده و"مجساته" لتطوير برامج وأدوات تكنولوجية وعملياتية واستخباراتية جديدة لاستخراج المعلومات من شبكة الإنترنت، ليتم نقلها بعد ذلك مباشرة لوحدة سرية أخرى، لأنه كانت هناك في بعض الأحيان فترة زمنية قصيرة قد تكون أحياناً دقيقة بين "نشر الوصية على صفحة فيسبوك" وبين تنفيذ العملية، وعليه تم أيضاً تعزيز وتوثيق التعاون مع أجهزة الأمن الأخرى، وعلى رأسها قيادة المنطقة الوسطى لجيش الاحتلال (المسؤولة عن الضفة الغربية المحتلة) وقسم الاستخبارات في الجيش ووحدة السايبر المعروفة 8200.
واستطاع الاحتلال استغلال التغطية التامة المتوفرة لشعبة الاستخبارات العسكرية لجيش الاحتلال "أمان" لطبقات وشرائح المجتمع الفلسطيني في الضفة الغربية والقدس لإجراء فحص للمعلومات ومقارنتها ببنك المعلومات والمعطيات القائمة والتي تشمل أيضاً مثلاً من يملك أجهزة كمبيوتر، ومن يرتبط بشبكات الإنترنت، ودمج كل هذه المعطيات التي يتم جمعها في لحظة معينة مع تحليلها عند الخبراء، والانتقال من مفاهيم الرصد المعتمدة على الانتماء لفصيل دون غيره، إلى مسألة حجم وكثافة النشاط على شبكة التواصل الاجتماعي ومحاولة الفصل بين من يمكن أن يكون فدائياً بالفعل وبين من لا يتعدى ما ينشره في صفحاته على "فيسبوك"، "فلسطيني يكتب بدافع الحقد والكراهية".
ولعل من أهم ما يكشفه المسؤول الإسرائيلي في الشاباك، هو دور السلطة الفلسطينية وأجهزتها الأمنية في هذه العمليات. ويقول، بحسب ما أوردت "هآرتس": "في المرحلة الأولى امتنعت الأجهزة الفلسطينية عن العمل وأيدت بدرجة معينة هذه العمليات، لكن في المراحل المتأخرة تطور إدراك بأن هذه العمليات لا تضر فقط بإسرائيل وإنما أيضاً بالسلطة الفلسطينية ومناعتها، وأنها تهز القناعة بأن السلطة الفلسطينية تسيطر على الأوضاع، عندها بدأت الأجهزة الأمنية الفلسطينية تعمل للمساعدة في وقف العمليات". وقد اعتقلت أجهزة السلطة شباناً اعتُبروا مرشحين لتنفيذ عمليات، وفي بعض الأحيان تم إشراك ذويهم بالمعلومات، وأحياناً اعتقال هؤلاء الشبان. ووفقاً للمسؤول الإسرائيلي "فإن هذه الجهود الكبيرة أحدثت تغييراً مهماً في اتجاه العمليات الفردية".