بعد التجسّس الرسمي على الاتصالات ونشر أماكن التجمعات التي ستنطلق منها تظاهرات يوم جمعة الغضب على مواقع التواصل الاجتماعي، أيقن أمن الرئيس المخلوع حسني مبارك أن جمعة الغضب ستكون ثورة عارمة. صدرت الأوامر صريحة وواضحة: "لا بدّ من منع الثورة بأي شكل، أطلقوا كل قنابل الغاز التي بحوزتكم وبعدها الخرطوش، وإن لم يرتدعوا، أطلقوا النار الحي على الصفوف الأماميّة". هكذا جاءت التعليمات من وزير الداخلية، حبيب العادلي، إلى قطاعات الأمن، بعد تلقيه مكالمات من مبارك ومدير المخابرات العامة حينها عمر سليمان تطالبه بقمع الثورة بأي شكل.
بعد صلاة الجمعة في 28 يناير 2011، انطلقت حناجر أكثر من 8 ملايين مصري، تهتف بصوت واحد: "الشعب يريد إسقاط النظام". أصيبت جحافل الأمن المركزي وقيادات أمن الدولة بالرعب، فأيقن كل من خرج في هذا اليوم أن مبارك سقط، وأيقنت قوات الأمن المسلحة أنها لن تصمد أمام هذه الحشود، فيما بدأ جنرالات وقيادات الدولة العميقة برسم خطة إجهاض الثورة، التي انطلقت في اليوم ذاته.
وفيما كانت قوات الأمن مرتبكة بعد سقوط المئات من الشهداء، من دون أن يؤدي ذلك إلى ردع المتظاهرين عن التقدم نحو ميدان التحرير ووزارة الداخلية، كان جنرالات الدولة العميقة يبحثون خطة استيعاب بركان الغضب، تمهيداً للانقضاض على الثورة في وقت لاحق. كانوا جميعاً متفقين على رفض مشروع التوريث، ويدركون أنّهم أمام فرصة للتخلص من الوريث جمال مبارك.
وفي الضفّة الأخرى، كان العادلي وسليمان يفكران في كيفية القضاء على الثورة نهائياً، من أجل إنجاح مشروع التوريث، وتحقيق مصالحهما الشخصيّة. وبعدما أدرك الرجلان أنّ القوة الباطشة التي أسقطت ألف شهيد في ذلك اليوم، لن توقف الثورة، فكر العادلي في خطة بديلة جرى اعتمادها، ولخّصها مدير مكتب مبارك لمدة 10 سنوات ورئيس لجنة العلاقات الخارجية الأسبق، مصطفى الفقي، في اعترافاته بأنّها تعتمد على نشر الفوضى، من خلال سحب الشرطة من الشوارع وفتح السجون وإطلاق البلطجية وقوات من الأمن، التي تعمل لحساب العادلي شخصياً، من أجل نشر الرعب في قلوب المصريين. وبعدها، يظهر جمال مبارك مبشراً بعودة الأمن في غضون 24 ساعة، ليحمله المصريون على الأكف.
ترك جنرالات الدولة العميقة العادلي ينفذ كل حِيَله لينتهي دوره ويتخلصوا منه، وكانوا يتمنون الخلاص أيضاً من سليمان، لكن علاقته الوثيقة بمبارك، أخّرت لحظة الخلاص منه. كانوا يدركون أن مبارك سيطلب من الجيش التدخل لا محالة، وحين أتت تلك اللحظة، بدأ دور الدولة العميقة في تبريد الثورة، لئلا تصل إلى رؤوسها وهيكلها التنظيمي المتوغل في جميع مؤسسات الدولة، وفي الوقت ذاته التخلّص من مشروع التوريث.
في لحظة نزول الجيش إلى الشارع، انتهى صراع الأجهزة السيادية لصالح المخابرات الحربيّة التي ترأسها اللواء عبدالفتاح السيسي آنذاك. أدرك الأخير وكبار الجنرالات أنّ القضاء على الثورة بالقوّة أمر مستحيل، وأن سقوط مزيد من الشهداء يعني مزيداً من الغضب. فكانت لعبة البيانات العسكريّة للمجلس الأعلى للقوات المسلحة والتي بدأت ببيان يهدئ الملايين من الثوار ويجعلهم يعتقدون أنّ الجيش معهم في ثورتهم، من دون أن يتبنّى ذلك صراحة.
حرق الثوار
عملت أجهزة الدولة على تنفيذ مراحل وخطوات عدة في وقت واحد، وكان بعض كبار الجنرالات قد فوجئوا بقرار مبارك تعيين سليمان نائباً له. ومع ذلك اعتبروا أنّ القرار فرصة ذهبيّة للتخلّص من سليمان الذي كان يرتبط بعلاقة متوترة مع وزير الدفاع حينذاك المشير محمد حسين طنطاوي. بدأت فكرة جلوس الإخوان وممثلين للشباب والقوى السياسية مع سليمان على طاولة واحدة تلوح في الأفق، ثم تحوّلت إلى أمر واقع، وهو ما استغلته الدولة العميقة لدقّ أول إسفين في ميدان التحرير. رفض مئات الآلاف من الموجودين في الميدان، الجلوس مع سليمان، لقربه من مبارك، فاشتعلت الخلافات بين مؤيّد ومعارض.
ومع وصول المفاوضات إلى طريق مسدود، تماسك ميدان التحرير مجدداً، وتمسّك بوجوب تنحّي مبارك فوراً. وبعد فشل موقعة الجمل والانفلات الأمني وخطة العادلي لنشر الفوضى، بوصفها آخر خيارات الدولة القديمة، دخلت الدولة العميقة على الخط مرة أخرى.
كان رجال الدولة العميقة في مختلف المؤسّسات يريدون الحفاظ على الرجل الكبير، الذي منحهم كلّ امتيازاتهم، لذلك كانوا مستعدّين لتقديم بعض أكباش الفداء، لتهدئة الثورة وتبريدها من دون أن تمسّهم نارها. بدأوا بعزل بعضهم من وظائفهم القياديّة، وكان العادلي القربان الأول، تلاه أحمد عز، وتوالت القرابين، فيما ظل مبارك في قصره. كان بمقدور الجيش، وفق خبراء، أن يطلق النار على المتظاهرين ويحول ميدان التحرير إلى بحر من الدماء، لكنّ رغبته في التخلّص من مشروع التوريث، وشجاعة مئات الآلاف من الثوار منعاه من القيام بذلك.
ووفق مصادر عدّة، جاء تنحّي مبارك جزءاً من سيناريو إجهاض الثورة، باتفاق مع مبارك وعائلته، قبل أن يفتك بهم ثوار يناير. في البداية، حمت الدولة العميقة مبارك وكفلت له السفر إلى شرم الشيخ مع عائلته، تاركين مهمة إفساد الثورة لأجهزة المخابرات. وحين تذكّر الثوار أنّ هناك مجرماً ما زال يعيش حياة الملوك في شرم الشيخ، عادوا إلى فكرة المليونيات مرة أخرى. ولم يكن أمام جنرالات الدولة ذاتها، إلا أن يحضروا مبارك وأبناءه ويودعوهم السجن، من دون أن يتعرّضوا لأي ذرة إهانة، وبقوا حتى وهم في سجنهم مكرمين، فيما كان يُبنى للشعب الثائر الحر الذي أسقطهم سجن كبير بيد من ادعوا حماية الثورة.
وفيما كان الثوار يحتفلون فرحاً بتنحي مبارك، بدأت أولى خطوات حرق الثورة، مع قدوم الآلاف من الفلول إلى الميدان للاحتفال أيضاً. شهد الميدان سلوكيات غريبة، منها التحرّش والمعاكسات وتعدّد حوادث السرقة، عدا عن ظهور أعداد كبيرة من المتسولين والباعة الجوالين وأطفال الشوارع، الذين تبيّن أنّهم دفعوا إلى الميدان بعد تلقيهم أموالاً من بلطجية كبار تابعين لقيادات في "الحزب الوطني".
ومع زيادة وتيرة هذه السلوكيات، وتسجيل حالات اغتصاب عدّة، تحوّل الميدان إلى أكثر الأماكن خطورة، وانتقلت حالة الكراهية لدى الثوار من الميدان إلى الثورة، باعتبارها سبباً في عسكرة البلطجية. ومع أنّ أجهزة الأمن والجيش كانت قادرة على اعتقال كل العناصر المخلّة، لكنها تركتهم شهوراً يعيثون فساداً، لتنجح خطة حرق ميدان التحرير.
فضائيات وإضرابات
وفي إطار خطة إفساد الثورة، برزت قنوات فضائية مرخّصة ومملوكة من رجال أعمال نافذين في "الحزب الوطني"، ارتدت "قناع" الثورة، وتبعها التلفزيون المصري بعدما خلع عباءة التعبئة للنظام، لينخدع الثوار ويقعوا في فخ محكم إعلامياً تم إعداده بعناية فائقة. وسرعان ما تحوّلت تلك القنوات التي ادعت مساندة الثورة ومهاجمة الأمن والعسكر ومبارك ونظامه إلى قنوات لاغتيال الثورة. وفي موازاة ذلك، حرّكت القيادات العمالية آلاف الإضرابات والاعتصامات بعد الثورة، لإحباط المصريين من ثورتهم، وهو ما حدث بالفعل.
أمن الدولة والنيابة والقضاء
كان لثلاثي أمن الدولة والنيابة والقضاء، الدور الأقوى في "شيطنة" الثورة وإهدار دماء الشهداء. تلاعبت النيابة العامة بكل أدلة قتل المتظاهرين. ولم يتأخر القضاة في الحكم ببراءة كلّ المتهمين. ويقول رئيس محكمة استئناف طنطا، المستشار أحمد الفقي، إنّ "المستشار عبد المجيد محمود كان رأس الحربة في الثورة المضادة، وأفسد عن عمد وبأوامر صادرة من مكتبه من قبل المستشار عادل السعيد، كل أدلة الإثبات في قضايا قتل المتظاهرين". ويوضح أنّ "القضاة الذين تم اختيارهم لقضايا قتل المتظاهرين، بمن فيهم القاضي الذي حكم ببراءة جميع المتهمين في موقعة الجمل، هم قضاة تم اختيارهم بعناية لتحقيق هذا الغرض".
ووفقاً لاعترافات عدد من وكلاء النيابة، فإن أوامر مباشرة صدرت عن مكتب النائب العام الأسبق عبدالمجيد محمود، لكل وكلاء النيابة، الذين يتولون التحقيق في قضيّة قتل المتظاهرين بإفساد كل ما لديهم من أدلة وتقديم أوراق متناقضة وضعيفة إلى المحكمة من أجل تمكين المتهمين في هذه الجرائم من الحصول على براءة!
أما أمن الدولة، والذي بات يُسمى "الأمن الوطني"، فقد تظاهر أركانه وضباطه بـ"التوبة" عن السمعة السيئة والانتهاكات الصارخة التي تمّت في عهد مبارك. لكنّهم كانوا يجمعون في تلك الفترة معلومات أكثر عن الثوار وعن الإخوان وعن السلفيين، وحينما أتت اللحظة المناسبة، انقضّوا بشراسة أكبر على الثورة ومن شارك فيها!
المارد السلفي
لم يكن ظهور قطاع كبير من السلفيين بالقوة في المشهد السياسي، عفوياً. لا تنكر قيادات أمنية أنّ ظهور المارد السلفي أتى باتفاق مع أجهزة الأمن، لزرع بذور الشقاق بينهم وبين الإخوان من ناحية، وتعميق الخلاف بين التيار الإسلامي وباقي التيارات السياسيّة من ناحية أخرى. أثارت المليونيات السلفيّة، بقيادة حزب النور، والتي دافع عنها "الإخوان" بحسن نيّة، مخاوف قطاعات كبيرة من القوى الليبرالية وتيارات سياسية أخرى.
وفي إطار تعميق الخلافات بين شركاء الثورة، غذّت الأجهزة الأمنيّة لدى السلفيين، فكرة الانضمام إلى الإخوان لناحية الإصرار على أن تكون الانتخابات أولاً بحجّة الاستقرار. وكان مسمار الانتخابات قبل الدستور من أوائل المسامير التي دقّتها الأجهزة الأمنية في جسد الثورة، بناء على تعليمات "الأمن الوطني".
وجاءت أحداث محمد محمود، كحلقة من حلقات لعبة الأمم المصريّة، فالجهات التي أشرفت على صناعة هذه الأحداث كانت تدرك جيداً أنّ "الإخوان" لن يكترثوا بها كثيراً، لأنّ همّهم الأكبر إنجاز الانتخابات البرلمانية. وكانت تدرك أيضاً أن أحداث محمد محمود ستترك جرحاً عميقاً في نفوس الثوار تجاه الإخوان، وسيكون ذلك مقدمة لتفكيك منظومة 25 يناير.
اختارت الدولة العميقة، الزمان والمكان بدقة عالية. فالزمان هو شهر نوفمبر/تشرين الثاني، تاريخ بدء الانتخابات البرلمانية، فالإخوان لن يتركوا الانتخابات للعودة إلى الميدان، والثوار لن يتركوا الشهداء يسقطون ليشاركوا في الانتخابات. أما المكان الذي انطلقت منه قوات الشرطة لمهاجمة ميدان التحرير، فهو شارع محمد محمود، حيث بدأت عمليات كرّ إلى الميدان، يعقبها فرّ إلى الوزارة، فيلاحقهم الثوار عبر شارع محمد محمود، حيث تمترست الشرطة وأمطرت المتظاهرين بوابل من القنابل المسيلة للدموع والخرطوش والرصاص الحي، ليظهروا أمام الإخوان الذين بلعوا الطعم وأمام باقي الشعب المصري، كما لو أنهم يدافعون عن مبنى وزارة الداخلية من محاولات اقتحامه.
انتهت أحداث محمد محمود بعد خمسة أيام دامية، سقط خلالها عشرات الشهداء وأصيب المئات، ووقعت الثورة في فخ استدرجت إليه، بعدما انقلبت قواها على بعضها، ووصل الأمر إلى حدّ اعتبار الإخوان "فصيلاً خائناً" للثورة. وارتكز مخطط القضاء على ثورة يناير، في الأساس، على إبادة "الإخوان" نهائياً. وبعد فخّ محمد محمود، جهّزت الدولة العميقة للمصيدة الأكبر، وهي دفع الإخوان إلى انتخابات الرئاسة؛ وكان لها ذلك.
وتمكّنت بعد تحقيق هدفها من إفشال حكم الإخوان أولاً، والمشروع الإسلامي ثانياً، وشنّت عبر إعلامها تعبئة إعلامية مكثّفة حول رغبة الجماعة في "أخونة" الدولة، مشيرة إلى تورّطها في حرق أقسام الشرطة وفتح السجون والتآمر على مصر. وأدى ذلك إلى احتقان شعبي كبير، جرى استغلاله لاحقاً للانقلاب العسكري على الرئيس محمد مرسي، ومن ثم المبادرة إلى خوض حرب حقيقية على قيادات الجماعة وأنصارها بعد إسقاط الأخير.
وبعد استقطاب الدولة العميقة للنخبة السياسية الثورية، صدرت الأوامر إلى شركات البترول بوقف ضخّ البنزين في المحطات، وإلى شركات الكهرباء بقطع التيار لفترات طويلة، وتم إنشاء حركة تمرّد في مقر المخابرات الحربيّة. وكرر السيسي بعد تعيينه وزيراً للدفاع، الإشارة إلى أنّ نزول الجيش إلى الشارع في قمّة الخطورة، وهو ما كان يثلج صدر الإخوان ويطمئنهم بأن الجيش معهم.
وبعد أن تخلّصت الدولة العميقة من حكم الإخوان في 30 يونيو/حزيران، و3 يوليو/تموز، انتقلت إلى مرحلة إبادة الجماعة وشيطنتها تمهيداً للانقضاض عليها، وهو ما يحدث منذ فضّ اعتصام رابعة حتى الآن. وبعد أن أجهزت على الإخوان، بدأت تتعقّب كلّ من شارك في ثورة يناير.
تابعونا ثورات_تتجدد