هشام العسري لـ"العربي الجديد": السيناريو ليس مقدّسًا بل نهج خطوات

31 أكتوبر 2018
هشام العسري: إظهار الناس من دون الاهتمام بهم (فيسبوك)
+ الخط -
"الجاهلية" (2018) سادس أفلام هشام العسري (كازبلانكا، 1977)، وخاتمة حلقة من مسار يحلو له أن يطلق عليها اسم "المغرب". فيلم كورالي تتقاطع فيه خيوط 6 قصص تتمحور حول هيمنة القويّ على الضعيف، في مجتمع صوّره غابةً صغيرةً نراقبها من دون أيّ عاطفة أو تماهٍ مع الشخصيات.

حكاية شاب مدلّل يغتصب ابنة سائق والده، فيحكم القاضي (بالاحتكام إلى قانون مثير للجدل تمّ إلغاؤه من التشريع المغربي عام 2014) بإعفاء المتّهم من المتابعة (القانونية/ القضائية)، بقبوله الزواج من ضحيّته.

هذا التجذّر في الواقع من جهة أولى، والجموح إلى الفانتازيا من جهة ثانية، وَصْفةٌ رابحة للإمساك بتلابيب المُشاهد، خصوصاً في الثلث الأخير من الفيلم، حيث تبدأ رحلة في جحيمٍ من المَشاهد القاسية التي تخلب القلوب والألباب رغم كل شيء، لأنّها حقيقية وصادقة في قسوتها.

هكذا ينجح هشام العسري مرّة أخرى في ملامسة آفاق السينما الخالصة، بمزجه الدراما بنبرة اللهو واللعب، كما في مشهد طفل يلهو بجثة المنتحر ولا يكفّ عن الدوران، معلّقًا بذراع المجنزرة (شيء تفوق جماليته كلّ وصف)، وينتهي (المشهد) بتحريك المشاعر رغم القتامة والمسافة التي يأخذها من الشخصيات.

في حوار "العربي الجديد" معه، يتحدّث هشام العسري بصراحته المعهودة عن معضلة توزيع أفلام المؤلّف في المغرب، وعن ملاحظاته على المؤسّسة الوصيّة على السينما، وعن تفاصيل رؤيته لـ"الجاهلية"، المعروض فقط في مراكز ثقافية فرنسية في المغرب، وغيرها من المسائل.

(*) على غير عادتي، أبدأ حواري معك بسؤال حول التوزيع. يحزّ في القلب حقًا ألاّ يُعرض في الصالات فيلمٌ رائع كـ"الجاهلية".
ـ أظنّ أنّ مشكلة التوزيع مشكلة كرامة. هذا هو التعبير. نحن أمام أناس لا يعقلون سوى البداهة. بالنسبة إليهم، يجب إنجاز فيلم بديهي، يتناول أشياء بديهية، ويتوجّه إلى جمهور بديهي. ليس هناك أي حسّ مجازفة أو مكان للمعجزات. المعجزة، بالنسبة إليّ، هي رجلٌ يُقرّر للمرّة الأولى إنجاز أمرٍ ما بشكل مختلف. هذا يُشبه منطق شريط الصوت. الجيّد هو وجود سبيلين أو ثلاثة يُغنِي كلُّ واحد منها الآخر، فيُثير المجموعُ الاهتمامَ. للأسف، تعمل المنظومة السينمائية عندنا وفق نظام أحادي: "مونو". الأشخاص المكلّفون ببرمجة الأفلام في الصالات يقرّرون أن لهم الحقّ في إقصاء فيلمٍ ما، لأنه ـ بالنسبة إليهم ـ غير قادرٍ على جذب الجمهور، أو لأنه "مُثير للقلاقل". هذا يمنع الأفلام من الوجود بشكل طبيعي، ويؤشّر إلى بلادة هؤلاء بكل بساطة.



بشكل عام، ينتهي عملي عندما أنتهي من الفيلم، لأني أنتقل بعده إلى الفيلم اللاحق. الغريب أنّ أفلامي تُشاهَد في الخارج أكثر مما تُشاهَد في المغرب. هناك مشكلة قلّة صالات عرض طبعًا، لكن حتى تلك الموجودة لا تثير برمجتها الاهتمام. أنا مثلاً لا أذهب إلى مجمّع "ميغاراما". أفضّل مُشاهدة فيلم مقرصن مثير للاهتمام، أو الذهاب إلى صالة "آي ماكس". في هذه الأخيرة يُتاح لك عرضٌ يمنحك أحاسيس مختلفة.

(*) هناك يتمّ تبنّي فكرة السينما كاستعراض، ودفعها إلى أقصى الحدود على مستوى جودة الصوت والصورة.
ـ تمامًا. نتيجة لهذا كلّه، وأنا متأسفٌ فعليًا لقول هذا، ليس لديّ أيّ تعاطف مع حالة الصالات السينمائية اليوم في المغرب. مسيّروها هم من حفروا بأيديهم الحفرة التي انتهوا في قعرها، حين شرعوا يبرمجون الأفلام نفسها، وانغلقوا في تركيبة أحادية وجامدة. لذا، ينبغي طرح مسألة الجمهور. هم يكرّرون دائمًا أن جمهور السينما غير موجود. هذا غير صحيح. يمكن أن يكون عدده محدودًا، وفي هذه الحالة ينبغي التفكير به وفق منطق التسويق المتعلّق بـ"الجيوب الصغيرة".

(*) الدليل على وجود الجمهور هو أن أفلامك تملأ صالات العرض في المراكز الثقافية الفرنسية، وأحيانًا في أكثر من حفلة في الصالة نفسها.
ـ بالضبط. الصالات تمتلئ بكاملها، وأحيانًا لا يتمكّن كثيرون من الدخول بسبب الامتلاء الكامل للمقاعد. خلال العام، يسألني أناس كثيرون عن كيفية مُشاهدة أفلامي في الصالات. في نهاية العام الجاري، سأصدر صندوق أقراصٍ لأفلامي الـ6، كي يتمكّن الجمهور من مشاهدتها كلّها.
أعتقد أنّ مهمة المؤسّسة الوصيّة على السينما في المغرب لا تنحصر في منح النقود لإنجاز أفلام سيّئة. أغلب الأفلام المنجزة في المغرب ضعيفة للغاية، ولا تحاول، بأي طريقة، أن تواجه تاريخ السينما وثقله. تسعى فقط إلى سرد قصّة، بنقصٍ مهول في الطموح الفني. ما إن تخرج من هذه المقاربة العتيقة والمحتشمة والجبانة والمزدحمة، تكاد لا تجد شيئاً يُذكر. الأفلام التي نشاهدها في "المهرجان الوطني للفيلم في طنجة" تحزّ في النفس.

(*) هذا يحيلنا إلى سؤال الإنتاج. أثناء مناقشته، قلتَ إنّ "الجاهلية" (مُنتَج بأموال خاصّة) لم يكن ممكنًا إنجازه لو اعتمد على "صندوق دعم الإنتاج" من "المركز السينمائي المغربي". لماذا؟
ـ أنجزت فيلمي الأوّل "النّهاية" عام 2012 بدعم من المركز. هذا تطلّب مني وقتًا طويلاً، لأنّ إنجاز الفيلم الأول يعادل الولادة: إمّا أن تعيش أثناءها، أو تلقى حتفك. عند إنجاز الفيلم الأول، وحتى الثاني، أنت تفكّر كأنك تحدّد مصيرك نهائيًا. كثيرون حولي أنجزوا الفيلم الأول، وانتهى كلّ شيء هنا. لم يعد أيّ شيء يشتغل بالنسبة إليهم بعد ذلك، وأصبح كلّ شيء معقّدًا. لديّ تعاطف خاص مع هؤلاء الأشخاص، لأنّ الأمر صعبٌ وقاسٍ للغاية. محظوظٌ أنا لأن فيلمي الأول نجح في المنحى الذي خطّطتُ له. عُرض في "كانّ"، وشوهد كثيرًا في العالم. بعدها، لم يعد أمام المتردّدين أمام فيلمي الأول أيّ ذريعة عند إطلاق الثاني، "همُ الكلاب" (2013)، بعد عام واحد فقط على الأول، لا بعد 4 أعوام كما جرت العادة. بعد ذلك، أدركتُ شيئًا بسيطًا، لكنّه مهمٌّ: قبل كلّ شيء، هناك صراع شخصي تخوضه ضد نفسك. طواحين الهواء كلّها تدور فينا: تحرّر من الوهم، تعب، يأس.

أن تكون سينمائيًا، يعني أيضًا أن تكون مُجبرًا على التحدّث مع أشخاص لا رغبة عندك حتى في إلقاء التحية عليهم. أن تتحمّل حماقة المؤسّسات التي لا تملك حدًّا أدنى من وعيٍ بمهمّتها الحقيقية. هناك إشراقات بالتأكيد. لا نيّة لديّ لرسم لوحة قاتمة. أعتقد أن الصّعوبات التي تعترض الفنان جزءٌ من رحلة البحث.

(*) أتقصدُ عراقيل لجان الدعم؟
ـ نعم، وصعوبات الرقابة أيضًا. هل تعلم أنهم كادوا يحرمون فيلمي الأول من الجزء الرابع من "التسبيق"؟ (جزءٌ من أموال الدعم يُقرَّر منحه بعد مشاهدة الفيلم وتقييمه من لجنة الدعم ـ المحرّر). لكنّ نور الدين الصّايل (مدير "المركز السينمائي المغربي" بين عامي 2003 و2014 ـ المُحرِّر) تدخّل ووضع "فيتو" حاسمًا ضدّ هذا، قائلاً: "هل فقدتم صوابكم؟ كيف تجرأون على فعل هذا بفيلمٍ كـ"النّهاية"؟". سأظلّ مُمتنًّا له. تلزم شجاعة وشخصيّة قويّة من أجل موقفٍ كهذا، لكن هذا ما ينقصنا أحيانًا.

للأسف، حُرِم "ضربة في الرّاس" (2017) من الشطر الرابع من المنحة، فوجدت نفسي وحيدًا. هذا فظيع. حتى "زملاؤك" لم يحرّكوا إصبعًا واحدة، ولم يقل أحد منهم إنّ هذا مقبولٌ. أن يتمّ التّعامل مع فيلم مثّل المغرب في "مهرجان برلين السينمائي" بهذه الطريقة؟ فيلم ساهم بتمويله "مركز السينماتوغرافيا الفرنسي"، بينما لا تجد 90 في المائة من الأفلام المغربية أي مصدر تمويل ثانٍ؟ فما بالك بالدعم الفرنسي، وكنتُ أتنافس مع مخرجين من طينة عبد الرحمن سيساكو وفيم فاندرز. هؤلاء لا يُقيّمون هذه الأشياء بمثابة إنجازات للسينما المغربية، بل على العكس يرون أنك وحيدٌ وبعيد. أنا لست أنانيًا البتّة، لكني غير مستعِدٍّ للتخلّي عن تفرّدي. لا مشكلة لي مع كوني مُصنّفًا من بين من لا يحقّقون إجماعًا، ويقسمون الحشود إلى نصفين. على العكس، أجد هذا رائعًا. الأفلام التي تدفعك إلى الانزواء في آخر ركن حصين تملكه هي التي شكّلت "سينفيليّتي". أفلام جعلتني أحلم ولا تزال تفعل لغاية اليوم. المؤسف حقًا هو أن يتمّ الحكم على سيناريوهاتنا من لجانٍ لم يسبق لغالبية أعضائها أن شاهدوا "زابريسكي بوينت" (1970) لمايكل آنجلو أنتونيوني.

في عملي، لا صعوبة لديّ في الذهاب إلى أبعد الحدود في أمور لا يجرؤ آخرون حتّى على وضع خنصرهم عليها. أجد أن هناك قوّة خفيّة نستمدّها من سبر أغوار الأشياء والأحاسيس، الخيّرة أو الشريرة.



(*) هناك جنوح نحو المغامرة من طرفك. يبدو هذا واضحًا في اختياراتك في "الجاهلية". أفكّر في صوت الراوي. هذا اختيار جمالي جديد ومفاجئ نوعًا ما، نظرًا إلى خطورته وعدم تماشيه مع أسلوبك.
ـ أعتبر نفسي مخرجًا مبتدئًا يتعلّم باستمرار. بالنسبة إلي، المجازفة بعنصرٍ ما مناسبة لقياس مدى ملاءمته. لا مشكلة لي في سلك منعرجات حادّة. هناك لقطة في بداية الفيلم أحبّها كثيرًا، تُركّز على ذبابة يشكّل مسار طيرانها منعرجًا حادًّا وسريعًا. ينبغي أن يقدر الفنان أيضًا على فعل شيء من هذا القبيل في عمله، ليُحدِث المفاجأة ويوقظ المُشاهِد. ينبغي أن يقدر على خلق شيء ما، ليس جديدًا بالضرورة لأن لا معنى لهذا، بل متفرّدًا. شيء لا نعرف كيف نصوغ ردّة فعل إزاءه. أجد هذا رائعًا حين لا يعرف المتفرّج كيف يصدر ردّة فعل أمام مشهد ما.

لهذا، فإنّ بُعد اللهو مهمّ جدًا في الفيلم، ويعبّر عن نوع من التكريم لرومان بولانسكي في أفلامه الأولى، خصوصًا مَشاهد الطفل والتجريد الذي يكسوه. السّينما هي أيضًا ألاّ نعرف أين نحن. هكذا يصبح حتّى الملل جزءًا لا يتجزّأ من الفيلم، بالشكل نفسه الذي يُعدّ فيه الصّمت بعد موزارت استمرارًا لموزارت.

مُثيرٌ للاهتمام أن أعمل على بُعدٍ لا ينتمي بالضرورة إلى العمل على السرد ولا حتى على "الميزانسين"، بل يجد جذوره في الاشتغال على بيئة الفيلم، وبموجبه نضع الشخصيات في نسق يشبه الانجذاب. لسنا فقط بحاجة إلى فهم الأشياء. أتفهّم أن هناك جزءًا من الجمهور يشتغل وفق هذه الحاجة. ربما سأتمكّن، في 5 أو 10 أعوام، من تصفية شياطيني كلّها. عندها، سأستطيع إنجاز أفلامي وفق هذه الحاجة. لكن اليوم، أنا محتاج إلى رابط نزاعيّ مع الأشياء، وإلى البحث عن "الوحش الصغير" وعرض الأشياء التي يُخفيها الآخرون، أو التي لا يستطيعون رؤيتها.

ما يهمّني كمخرج هو العثور على أفضل وسيلة لسرد الحكاية. ما أحببته أثناء الاشتغال على "الجاهلية" هو إيجاد أفكار عديدة داخل إطار ثابت في كلّ مرة. كما هو الحال في المَشاهد التي تحتلّ فيها أغصان الأشجار مقدّمة الـ"كادر" فتبدو كألسنةِ لهبٍ متجمّدة، أو فكرة الإطار داخل الإطار، وأفكار أخرى.

(*) نلاحظ أيضًا أنك ركّزت في هذا الفيلم على "خارج الحقل" أكثر من أي فيلم آخر. لماذا؟
ـ لأننا، بشكل خاص هنا، بصدد علاقة قوّة أكثر من رابط اتصال. عندما يتكلّم أحدٌ "خارج الحقل"، فهذه إشارة إلى كونه، نوعًا ما، خارج نطاق الحركة، أو غير ذي أهمّية. علمًا أن معظم الشخصيات "غير مهمّة": الخادمة، الفتاة التي تتعرّض للاغتصاب ويتمّ تزويجها ضد إرادتها، الطفل، الأب البستانيّ، الفتاة ذات الحذاء المصنوع من قارورة بلاستيكية، إلخ. القول إنها غير ذات أهمية ليس حكم قيمة عليها، بل نوع من التراتبية. كما في الجيش مثلاً. مثيرٌ للاهتمام بلورة ذلك بتجاهل الشخصيات بطريقة أو بأخرى. أن تعرض المدن لكن من دون إظهار الناس. أن تُظهر الناس من دون أن "تهتمّ بهم". الإخراج في الفيلم يحجب أكثر من ذلك. يتمّ تجزئة شخصيات عديدة بالكامل. الشخصية التي تُصوَّر بشكل أفضل هي لعبة الرجل الأصفر الصغير. فالآخرون جميعهم سُحقوا وكُسِّروا وهُمِّشوا وقُطِّعوا وحُوِّلوا.

أعتقد أن هذا يُسبِّب نوعًا من التوتّر الطبيعي للفيلم.



(*) لكن هذا يحول أيضًا بيننا وبين التّماهي مع الشخصيات. نحن لا نتماهى مع أي شخصية في الفيلم إلا قليلاً، ومع الشخصية التي تلعبها سلمى دليمي تحديدًا، لأنك تُصوِّرها بشيءٍ من الحنان.
ـ لا، ليس هذا بالضرورة. في الواقع، هذه الفتاة هي أكثر الشخصيات عزمًا على فعل شيءٍ ما، حتّى لو اقتضى الأمر أن تغشّ لتحقيقه. قصّتها في الحقيقة بسيطة جدًا. لا أتناولها بشكل درامي أو داكن. أبدأ فقط مع فتاة غارقة في الحبّ، وهذا يجلب إشراقة لا وجود لها في بقية الفيلم، فهناك بالأحرى تساؤلات: رجل مكتئب لا نعرف لماذا يحتفظ بفتاة مقيّدة، وآخر يبحث عن والده من دون العثور عليه، وأب متصابٍ ومُضحك جدّا، وفي الوقت نفسه هو وغدٌ حقيقي. هناك أيضًا طفل نحبّه لأنه جميل وذكيّ وماكر. هذه الفتاة تجلب شيئًا من الضوء الذي يجسّد عاطفة حقيقية، لكنّها في النهاية تخسر كلّ شيء من أجل شخص ضعيف يشبه الشخصيات الأخرى. لم أرغب في خلق تماهٍ مع الشخصيات بل وضعها تحت الملاحظة. هذا فحوى ما يحكيه صوت الرّاوي، على طريقة علماء الحشرات.

(*) هذا شيء "بونويلي" (نسبة إلى السينمائي الإسباني لوي بونويل ـ المحرّر) للغاية.
ـ نعم. إنه كالنظر إلى نوعٍ آخر. عندما ننظر إلى الغابة، لا نتعاطف مع من يُفتَرَس. نقول "هذا عنيف". لكننا معجبون به كما نُعجب برقصة.

(*) تُنعت أفلامك، عشوائيًا ودائمًا، بالسوريالية، بينما هي ليست كذلك دائمًا نظريًا. "الجاهلية" ينطوي فعليًا على جانب سوريالي، بمعنى أننا نراقب الواقع على طريقة عالم الحشرات كما كان جان دوشيه يقول في وصف أسلوب بونويل.
ـ مقاربتي منزاحة دائمًا، أي أني أعمل على أشياء نراها دائمًا. لكني أنزاح قليلاً للحصول على جانب يعطي انطباعًا أننا بصدد شيء آخر. في نهاية المطاف، تتمثّل هنا رؤية صانع الأفلام. نحن نروي القصص نفسها دائمًا. لدينا دائمًا المواضيع والديكورات نفسها. نصوّر أناسًا يتدحرجون إلى القعر من دون أن يكفّوا عن الحديث. اختيار سلّم اللقطات وتركيز العدسة والفضاء المناسب، كلّها خيارات نقوم بها مسبقًا.

في الفيلم، هناك شخصيات مفقودة وسط الديكور، تتحدّث في حين أنها ضبابية. هذا نوع من الازدراء. قال رامي فجاج (قائد المجنزرة المنتحر في الفيلم ـ المُحرِّر) شيئًا مثيرًا للاهتمام في مناقشة "الجاهلية"، عندما أشار إلى أن الممثلين تمّ تصويرهم كديكور. هذا يشبه ما حدث أثناء تصوير "جوّع كلبك" (2015)، إذْ لم يكن الممثلون يعلمون إن كانوا يُصوَّرون أو لا. هناك عمل على الانعكاسات والنوافذ الزجاجية، وكانوا بطريقة ما خلف الكاميرا. كانوا ينشغلون في كلّ مرة لم يكونوا في محور الكاميرا، لكني كنت أطمئنهم: "لا تشغلوا بالكم. لقد تمّ تصوير المشهد". هذا مزعج بالنسبة إليهم لأنهم تعوّدوا على أن يكونوا في مسرح من دون كاميرا، أو أن تكون كاميرا السينما قبالتهم.

عندما تزيل هذا النوع من الـ"أوتوماتيزمات"، تضع الممثّل في موقف ضعف مثير للاهتمام. هناك مزحة يردّدها الممثلون معي دائمًا: "افعلْ ما يطلبه منك من دون أن تسأل، واذهب معه حتى النهاية. على أي حال، لن تفهم ما يريد فعله قبل أن ترى المشهد مُوَلّفًا (بعد المونتاج)". هذا دليل على ذكاء وثقة بالغة في شخصي من قبلهم، وعلى أني أتعامل معهم بجدّية، لأنهم ممثلون يسلّمون أنفسهم لي، ولا يذخرون جهدًا، وحتى عندما لا يفهمون فَهُم لا يمتنعون.

هذه مشكلة أمتنا ومؤسّساتنا وكلّ شيء عندنا. عندما لا يفهمون يضغطون على الفرامل بأقصى جهدهم. لا يقولون لأنفسهم أن هناك شيئًا يمكن اكتشافه ربّما، فيسعون إلى البحث عنه. لأنهم ليسوا فنانين وغير متناغمين مع مكان وجودهم، فإنّ لديهم إحباطًا. لحسن الحظ، ليس لديّ هذا النوع من المشاكل مع الممثلين والفنّيين أيضًا. أنا، نوعًا ما، خيميائي صُوَر. أعمل بأساليب معيّنة لتوليد صُوَر غير اعتيادية. هذا يحمل، في الوقت نفسه، جانبًا من ترتيب الهشاشة أو العيب، طريقة لاستخدام نقطة المنظور، واستثمار الفراغات والهواء. كما أني لست من مدرسة السيطرة على الناس وتوبيخهم. هذه ليست طريقتي في العمل إطلاقًا. مقاربتي أكثر نعومة وراحة. يمكن للنّاس أن يتحمّلوا أمورًا أصعب، لأنك أكثر سخاءً معهم، ولأنهم يشعرون معك بالحبّ.

(*) كي نعطي مثلاً عن أسلوب الانزياح، أجده عظيماً ذلك المشهد الذي يُظهر أعمى يُساعد عامل مجنزرة مكتئب على الانتحار. لم يكن لهذا المشهد أن يكون بهذه القوّة لولا التحاق الطفل به ليحمله بـ"لعبه" الصبياني إلى مستوى أحاسيس أعلى وأعقد. هذه المزاوجة بين الفظيع والصّبياني ـ اللعوب ساحرة في الفيلم، وتشكّل برأيي المفتاح الرئيسي لقراءته.
ـ بالنسبة إليّ، يمكن للفيلم أن يكون كوميديًا عندما تفكر فيه بطريقة معيّنة. هو أيضًا قصّة رجل مسجون في نافذة يسأل طوال الوقت: "كم السّاعة الآن؟". قصّة شخص يجب أن يتنكّر بوجه أسود ليخدع والد محبوبته العنصري تجاه البيض. قصّة شاب محبط لا يعرف ما هي مشكلته.
أعتقد أنه أمر رائع أن يجهل الشرير تمامًا أنه شرير ولماذا هو شرير. هذا يذكّرني بكايزر سوزيه في "المشتبه بهم المعتادون" (1995، لبراين سينغر). الفكرة أيضًا هي اللهو بمطارق وهمية تصبح في لحظة معيّنة حقيقية. لعبة رجل أصفر صغير في يد رجل حقيقي مجوّف. هذا نوع من أنواع اللغة التي تنتمي إلى الفيلم، والتي تُمكّنك من النفاذ إلى طرحه، لكنها تمنعك أيضًا بشكلٍ ما. لأن الفكرة هنا هي ألاّ نكون قريبين من الشخصيات، بل أن ننظر إليهم بنوعٍ من الانفصال الذي يغدو شيئًا من التعاطف في النهاية، عندما نضع آخر قطع الـ"بازل" في مكانها، ونفهم كيف تترابط الأشياء كلّها: من وماذا وكيف تسير الأمور، ولماذا تتصرّف الشخصيات بهذه الكيفية. يغادر المُشاهد مع فيلمٍ آخر في رأسه. هذا هو في الواقع عمل المونتاج الذي استمرّ 3 أعوام. الوصول إلى حقيقة أن كلّ شيء أصبح واضحًا من دون أن يتدخل أحدهم ليقول: "انتباه. هذا شقيق ذاك، وتلك محبوبة فلان". كيف تحكي قصّة مجزّأة بطريقة لا تكتمل الصورة الكاملة وفقًا لها إلا عند النهاية.

(*) بالضبط. هذا جانبٌ أحببته كثيرًا في الفيلم. إنه عكس أفلام كثيرة تعتمد على قصص شخصيات متعددة تكشفها أوراقها كلّها في الثلث الأول منها. فيلم لا ينتهي من وصل خطوط العلاقة بين الشخصيات إلاّ في ثلثه الأخير. هل كان صعبًا بلوغ هذا الجانب أثناء الكتابة؟
ـ في الحقيقة لا. أنا أكتب بسهولة تامّة. لكن، في كتابة فيلمي المقبل، بدأت العمل مع كاتب سيناريو كي أتحدّى ذلك قليلاً. رغم أني أروي قصصًا مختلفة في كلّ مرّة، فإن الكتابة بسهولة تعني أنّك في مكان ما من منطقتك المريحة. كانت الكتابة سهلة لأني كنت مدفوعًا بمتعة الأشياء، والأشياء التي تراها في الفيلم جعلتني أضحك حتّى البكاء عندما كتبتها قبل 3 أو 4 أعوام. أكتب وأتوقف حتّى أضحك، ثم أستأنف الكتابة.

في عملي، هناك قسوة أيضًا تنتمي إلى نطاق السينما لأني كاتب قاسٍ. يجب أن تعاني شخصياتي، وهذا سبب في أن يبذل ممثليّ جهودًا كبيرة ليتقمّصوا الشخصيات. بالنسبة إلي، يُشبه الأمر خرطوشة صيد، إذا لم تُستخدم لإطلاق النار، فهي عديمة الفائدة.

يجلب التصوير كذلك أفكارًا كثيرة تُنوّرني. أحيانًا، أعثر على أشياء تبدو للوهلة الأولى محض هراء، وأشياء أخرى تزعجني. ببطء، أدمجها في الفيلم فتصبح أحيانًا عنصرًا مركزيًا. هذه هي العملية الإبداعية كما في المسرح. التصوير نوعٌ من البروفة أمام عدسة كاميرا. هذه الحرية في الاشتغال تعني أنك تتحكّم بطرحك إلى درجة تجعله قابلاً للاختراق من عناصر خارجية ينبغي عدم الخوف منها. بالنسبة إليّ، ليس السيناريو مقدّسًا، بل نهج خطوات. أكتبه فترة طويلة، وأحرص على أن يكون متينًا. لكن، من دواعي سروري كمخرج أن آتي إلى البلاتوه وأقول: "جيّد. كيف نجعل هذا المشهد أقوى وأكثر إثارة وخفقانًا".

(*) هل كان طابع الفيلم ـ المكعّب السحري حاضرًا منذ كتابة السيناريو؟
ـ لا. كتبتُ كل قصّة على حدة. لذا، هناك مشاهد تنادي أخرى وفق قطع "ثيماتي"، كلقطة نتابع فيها شخصًا يأكل الـ"كسكس"، وفي لقطة تالية نرى شخصًا آخر يلعق يديه.

(*) الشخصية الثانوية التي يؤدّيها عماد فجاج لا دور لها في الحكي. كأنها هناك لتقول إن هذا النموذج موجود في المجتمع. رجل يروي الأفكار الجاهزة، ويردّد كلام المقاهي.
ـ إنه شخص عادي. نحن لا نتحدّث إلى الناس العاديين عادة. نعرض شخصيات كسرتها الحياة. هناك شرخ رهيب يعيش في كلّ شخصية، والفيلم يبحث عن إظهاره أو ملئه، لكنّ الأمر لا ينجح. يزداد الشرخ، ويصبح الثقب أوسع. في الواقع، كتبتُ 6 قصص قصيرة، مع تقاطعات بينها كان مُقرّرًا حدوثها. باستثناء ذلك، بين السيناريو والتصوير، هناك أشياء كثيرة أُضيفت أو أُزيلت. هناك دائمًا لحظات تقاطع تتلامس فيها خيوط الحكي. في الحقيقة، هذا لإظهار وجهة نظر الطفل الصغير وراء نظّارات تشبه المصفاة. هذا لطيف. أن نعمل من خلال شيء بسيطٍ كهذا على وجهة النظر.



(*) بطريقة ما، أنت تُضاعف وجهة نظرك الخاصة من خلال وجهة نظر الشخصية.
ـ بالضبط. في كل مرة لا نعرف أين نحن. وفي الوقت نفسه، عندما ترى هذا الشيء (النظارات ـ المصفاة) الذي لا وظيفة معيّنة له، فهو يحيلك إلى مستوى ثانٍ: يمكن أن يكون فكرة غريبة ناتجة عن إعادة التدوير أو الإبداع أو انعدام الجدوى، أو هذه الأشياء كلّها في آن واحد. لكنها، في الأحوال كلّها، هي فكرة تُظهر كم أنّ الطفل وحيد.

هذا يذكرني بصباي، حين كنت أصنع أشياء لا فائدة لها. في نهاية الفيلم، عندما ننظر إلى الطفل على الأرض مُضرَّجًا بدمه، فهذا يقول كلّ شيء عن الشخصيات والزمن الذي نعيش فيه، والعنف الذي يسوده. عندها ندرك أن شيئًا ما خُلِق للّهو، عديم الفائدة وعالم ـ ثالثي إنْ أردت. كم أن شيئًا كهذا يمكن أن يكون خطيرًا.

الأمر يُشبه حالة الفتاة ذات الحذاء المصنوع من قارورة مياه، التي ترتفع تدريجيًا في السلم الاجتماعي لتحصل على حذاء رجل نافق. هذه الأجسام تجعل التواصل بين الشخصيات ممكنًا على هوامش الحكي. مثلاً، نرى مالك أخميس (القاضي) يعقد حذاءه، وفي المستوى نفسه شرطيّ يربط خيوط حذائه العسكري بينما يدوس وجه حسن بديدة (البستاني).

هذا نوع من اجترار الحركات والإيماءات الصادرة من الشخصيات، فيُسمح الربط بينها، لأنها تنتمي إلى المجال نفسه. يبدأ رجل السلطة الذي يدعس على وجه أحدهم دائمًا بتضييق أربطة حذائه.

(*) تثير اهتمامي الفكرة المتعلّقة باحتقار القوي للضعيف، وهي تهيمن في الفيلم، نظرًا إلى راهن الوضع الاجتماعي في المغرب أوّلاً، ثم بسبب عودتها في أفلام مغربية أخرى مهمّة كـ"وليلي" لفوزي بنسعيدي و"صوفيا" لمريم بنمبارك. هل لديك حساسية إزاء هذا الشعور الكامن والمتنامي بالاحتقار في المجتمع المغربي؟
ـ بالنسبة إليّ، الظلم كما أدركه مرتبط بجوانب عديدة، أهمّها أنّ هناك أناسًا يستغلّون وضعهم كضحيّة. لدينا كثيرون لا يكفّون عن الصراخ: "لمْ يفعلوا هذا لنا. لم نحصل على ذاك. لِمَ فعلوا بنا كذا، وأعطونا هذا". هؤلاء يريدون أن يكون كلّ شيء مجّانيًا ومتاحًا، للاستمتاع بمنظومة لم تُصنّع للاستفادة. نحن لسنا في فرنسا. هذا الوضع ليس جميلاً إطلاقًا. هذه القدرة على الانحناء وثني العمود الفقري. كما تعلم، الناس الذين يعرّضون أنفسهم للقتل من أجل الاستفادة من الطحين مجّانًا.

في أحد أفلامي التلفزيونية، ذكرت جملة تتعلّق بهذا، أثارت عداءً كبيرًا ضدي. هناك موظّف مسؤول في الإحصاءات يصل إلى حيٍّ لا يجد أحدًا فيه. عندما يسأل أين ذهب الجميع، يجيبه أحدهم: "نصفهم جالس في المقهى يراقب النصف الآخر في المقهى المقابل. وزِّعْ شيئًا ما مجّانًا، تراهم يجتمعون حولك بسرعة". هذا الجانب النفعي يزعجني. في حياتي، لم أتمكن قطّ من الغشّ لركوب الحافلة مجّانًا. أو مرّة واحدة: كنتُ أريد الذهاب لمشاهدة فيلم وأضعت المال، فانتهيتُ كغبيّ في الحافلة. كنتُ خائفًا بل مرعوبًا، لأني لم أستطع أن أكون في هذه الوضعية، بينما أعرف جيدًا أشخاصًا، بالنسبة إليهم عادي أن تركب الحافلة من دون أن تدفع ثمن تذكرتك. فجأة، عندما لا تعمل المنظومة لصالحهم، تصبح المنظومة سيئة. وعندما يستفيدون، يطبّعون مع النظام.

بالنسبة إليّ، الفيلم ينتقد ضعف أمّتنا. هذا جانب من سلوك الرضى بوضع الضحية يجتاح الغالبية. أتنقل بدرّاجة نارية من نوع "فيسبا". هناك دائمًا رجل يوقفني، أعتقد أنه سيسألني عن وجهة معيّنة، فإذا به يخبرني أنه محتاج إلى 10 دراهم. مؤسف قبول هذا.

بالنسبة إليّ، فكرة الظلم ليست مجرد علاقة بين قوي وضعيف، بل مسألة قبول أيضًا. كاني ويست (مغنّي "راب" ومؤلّف موسيقي ومنتج ومخرج أميركي، 1977 ـ المحرّر) قال جملة أثارت ضجّة كبيرة: "400 عام من العبودية تبدو لي أنّها كانت أيضًا محض اختيار".
المساهمون