هزيمتنا الجميلة

20 سبتمبر 2014
لا تسأل ماذا يجري في عرسال؟ (فرانس برس)
+ الخط -

تكتب ثم تمحو، ثمّ تكتب العبارة نفسها بشكل ملطّف أكثر، ثم تمحوها مرة ثانية. مهما لطّفتها لن يكون وقعها جميلاً. وسط تدفّق "المشاعر الوطنية" مهما كُتب، لن يكون مقبولاً. رغم ذلك تعود وتكتب. يكتبون. قلّة قليلة، ليست من هنا ولا هناك. واقفون في اللامكان، يحاولون إيجاد مكانهم ويعجزون.

تقيّأ كل ما في داخلك من شعارات عن الأرض والوطن والجيش، تقيأها على الورق وعلى الشاشات، وستجد مكانك سريعاً. لا تسأل. لا تسأل كيف يذيعون خبراً عن قتل الجندي محمد حمية، حتى قبل التأكد من المعلومات.

لا تسأل عن من ورّط الجيش في معركة، يعرف الجميع أنها أكبر منه بكثير، وأن عبارات مثل "جيش بياكل راس الحية" تنفع لاحتفالات عيد الاستقلال فقط.

لا تسأل عن خلافات تسمح لابن قائد الجيش بقيادة "حفلة ردح" على تويتر.

لا تسأل قائد الجيش ماذا قصد يوم قال "وضعنا ممتاز"، بينما كان عشرات الجنود مخطوفين، وقد عبروا الحدود مع جلاديهم.

وإياك أن تطالب بحماية أهالي عرسال، وبوقف الشحن ضدّهم. إياك. هم البيئة الحاضنة، اقتلوهم، اسجنوهم، حاصروهم إلى حين عودة الجنود المخطوفين، وربما أكثر.

نحن مهزومون. نعرف ذلك.

****

السخرية هي الحلّ. نهرب إلى السخرية من كل ما يجري. نكتب مقالات نضحك فيها من كل التطورات حولنا. ننفصل عن الواقع، وندّعي أننا غير معنيين بكل هذه الصراعات.

نتجاهل تماماً أننا نأكل من متاجر تشارك طعامنا مباشرة مع القطط.

نتجاهل أننا نعيش بلا كهرباء ولا ماء منذ عقود.

نتجاهل ذلك الموكب الذي يوقفنا لمدة نصف ساعة على الطريق، فقط لكي يمرّ بسلام.

نتجاهل انتكاساتنا التي لا تنتهي في سورية، وفي مصر وليبيا واليمن.. وقبلهم جميعاً، انتكاستنا المستمرة في بيروت.

نتجاهل كل ذلك، ونكتب عن أشياء أخرى.. عن أحلام لن تتحقق.

نحن مهزومون، نعرف ذلك.

*******

نفرح لتفاصيل سخيفة، نحوّلها إلى قضايا أساسية. نقنع أنفسنا أن معركتنا أكبر من هذه الحدود وأننا جزء من كل: يخلى سبيل علاء عبد الفتاح، نحتفل لأسبوع كامل، نشارك الصور والأشعار والمقالات...

يكتب باسم يوسف تغريدة بعد انقطاع طويل، نكاد نطير من الفرح.

منظمة عالمية تريد تكريم رزان زيتونة، فنقنع أنفسنا أن العالم لا يزال بخير.

ننتصر لمدوّن هنا، وصحافي هناك.. نغوص في تفاصيل كثيرة، وصغيرة، ننشغل بها، ونحن نعلم جيداً أنها في النهاية ستبقى تفاصيل.. تفاصيل داخل مشهد كبير يشتد حولنا، يلتف حول أعناقنا، ويخنقنا.. ومع ذلك نتمسّك بالتفاصيل.

ندافع عن الحريات الشخصية، عن الحق في التعبير والحق في الوجود... نقنع أنفسنا أننا منتصرون في النهاية، أننا أصحاب الخيارات الصحيحة، وأن "درب النضال طويل طويل"...

لكننا نعرف أننا سنبقى في اللامكان. لا مكان لنا، وسط هذه الاصطفافات، وسط هذا الشحن.. لا مكان إلا للأكثريات الطاحنة، وللأقليات الخائفة. لا حياة خارج الأكثريات والأقليات. نثبت في اللامكان. فسحتنا الأخيرة.

نحن مهزومون، نعرف ذلك.. وهزيمتنا جميلة.
المساهمون