هزيمة حزيران 1967 .. الاستبداد لا يكون ثوريًا

24 مايو 2017
(أسرى مصريون في قبضة الجيش الصهيوني، تصوير: هولتون ديوتسش)
+ الخط -
في الذكرى الخمسين لهزيمة 5 حزيران/ يونيو 1967، والتي لم تكن مجرّد هزيمة عسكرية فادحة، لكن انهار معها النظام العربي الذي تأسّس بتأثير دعاية ضخمة وشعارات كبيرة وأيديولوجيا صاخبة، ترفع قيم التقدّم والحريّة، لكنها في الواقع تمارس القمع والإذلال لشعوبها، فالأنظمة امتهنت الكذب الذي اعتمد على جهاز دعائي، مارست من خلاله السلطة هواياتها بالتضليل، وبث خطاباتها العنترية، فجاءت الهزيمة تعرّي هذه القشرة الهشّة التي تخفي وراءها نظامًا يقود لزوما نحو الهزيمة ويضمر داخله عواملها نتيجة سياسات سلطوية تؤمّن شروط "تنمية التخلف" بحسب وصف مهدي عامل.

فضلًا عن كونها تجسيداً لسقوط مدوٍّ لمشروع نهضوي عربي بدا طموحًا للخروج من التبعية نحو الاستقلال، لكنه أفضى إلى حالة من الإحباط الجماعي وانهيار التطلعات النهضوية، وخلق ثقافة وفلسفة تبريرية ترفض النقد وتعتبره نوعًا من التجريح ولا تعترف بالهزيمة، ومن ثم، تكشف عن مسبباتها وعواملها الداخلية لكنها تضمر حالة من الإنكار وتستعير عوضًا عن ذلك مفردات المؤامرة والغدر للتغطية عن العجز والفشل.

كشفت هزيمة 1967، فشل عملية التحديث المحدود والجزئي الذي شمل عدة أنشطة وقطاعات، مثل زيادة عدد إنشاء المدارس والمصانع، لكن العناصر الجوهرية للدولة القديمة المتخلفة ظلت متماسكة لم يمسها جوهر التغيير، وظلت قيم الدولة الحديثة من المجتمع المدني وسيادة القانون والعدالة والمواطنة غائبة ومغيبة عمدًا.

ولم يكن النظام، في ظل تطبيقات ما عرف بالاشتراكية الناصرية، يهدف إلى تغييرات ثورية في بنية النظام الطبقي والاجتماعي المصري، ويدشن لوعي جديد قادر على استقبال تداعيات التغيير ويمتلك أدواته المعرفية وقيمه السياسية والاقتصادية الجديدة.

فكان نظام يوليو نفسه غير مؤهّل لهذا المخاض بأي صورة، ولا يملك آلياته وإنتاج كادر حداثي يصبح عضوًا في الحضارة الحديثة بقيمها وإنتاجها المادي والعلمي.

فعدم إيجاد عبد الناصر صيغة ومضمونا للحكم الديمقراطي والتحوّل عن سلطة الإقطاع والشرائح العليا من البرجوازية، ما يمكنه بعد ذلك من الانفتاح على كافة التيارات السياسية وتصفية قوى الثورة المضادة داخل الثورة، والتي كانت بمثابة "الجيوب اليمينية" التي تجهض المشروع الثوري وتقف ضد ولوج أطرافه الحقيقية إليه، فظلت هذه الثغرات مثل ندبات في وجه النظام، تضعفه وتجهض كل منجزاته الاجتماعية والاقتصادية حتى انتهزت الفرصة كاملة للانقضاض عليها.

انفردت دولة يوليو بالقرار الوطني والسياسي، واستأثرت بالحكم في غياب أي مضمون ديمقراطي للحكم فحافظت السلطة، عبر أدواتها السلطوية والقمعية على بقاء وعي نفعي ومتخلف للمجتمع، في ظل تصفية أي حراك جماهيري يساهم في دور سياسي ومعارض أو الضغط المجتمعي والسياسي تجاه النظام، ومثلما قام النظام الناصري بالتخلّص من الحركة الشعبية التي نمت في سنوات ما قبل 1952، وتمثلت في اتحادات العمال، وتقليص دورها والقضاء عليها، امتدت كذلك لأحزاب المعارضة والقوى السياسية، دون أن تستثني اليسار والشيوعيين وجماعة الإخوان المسلمين.

ولذلك فإن الهزيمة المستمرة تفضح ذلك الواقع المسكوت عنه، الذي يعنى بتحرير الأرض المحتلة، ويهمل بتواطؤ شديد معركة أشمل تسعى نحو تخليص الإنسان العربي من قبضة الخوف والأسر، في ظل قيود وممارسات لا يكف عن تأبيدها في الواقع السياسي والاجتماعي، يستعصي الطعن عليها ومخالفتها.

فتكريس الجهل والخوف يجعلنا نخفق في خوض حروب حديثة عن التي خاضها العرب في عهد المماليك والدولة العثمانية، بقيمها وتقاليدها وأدواتها القديمة، والوعي بالتفاوت الشديد بينها وبين التقاليد العسكرية والخبرة في شؤون إدارة الجيش الحديثة، فتضحي الهزيمة مع العدو ليست عسكرية وفي المعدّات قط، لكن في الإمكانيات البشرية، والعلمية والمعرفية المتاحة للآخر المتفوّق.

لا تزال الأنظمة العربية في قلب حياتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية تتجاهل بناء صحوة في المجتمع وتحريكه تجاه الوعي بذاته، وبناء مجتمع حديث قوي كوسيلة للتخلّص من احتمالات هزيمة جديدة وأن تتخلّص الذات العربية من إزاحة عوامل الهزيمة للغرب والمؤامرات الصهيو/ أمريكية، ويضحي مشغولًا بالآخر العدو أكثر مما هو مشغول بالذات.

ومنذ تاريخ الهزيمة تعرى ذلك النزوع الهوياتي والاحتقان الطائفي الذي تجلّى يبحث عن خلاصه الفردي داخل الهوية الدينية في مقابل تهدم الهوية الوطنية وفقدانها الصلاحية تحت وطأة الهزيمة، حيث بدأت الحركات الإسلامية تنشط في السبعينيات تنادي بهوية إسلامية، وانخرطت في صفوفها جماهير ليست بالقليلة لاقت معها قبولًا وزخمًا شديدًا واستعادت ذاتها المفقودة وشعورها بالعزّة التاريخية.

وفي المقابل كانت الهوية القبطية تتنامى لدى مسيحيي مصر حيث اتجهوا نحو الكنيسة والتفوا حول قياداتها الروحية، وفي التوقيت نفسه كان ثمة تيار مصري محدود العدد ولكنه قوي الظهور إعلاميًا ينادي بالعودة للهوية المصرية الفرعونية القديمة على اعتبار أن الحضارة المصرية هي الحضارة الإنسانية الأم، التي ألهمت وما زالت تلهم كل الحضارات الإنسانية ومن هنا ينبهر بها العالم كله، وبالتالي تصبح هذه الحضارة منطلقًا إنسانيًا وعالميًا للنهضة المصرية الحديثة.

هذه الحالة المليئة بالنزوع الفاشي والتي خلقتها السلطة وحفزت بقاءها في ظل واقع عربي متداع، هو الذي ما زال يعيد إنتاج بؤسه ويرفض قواعد الحياة الديمقراطية ويدشن خصومة سارية بين العقل والحرية، وينحاز للعقل الإطلاقي الذي ينتمي للماضي ويقدّس العادة ويرفض النقد ويعتبره تطاولًا وتجريحًا ويرفض الهزائم بالتبرير.

المساهمون