24 يوليو 2024
هذه الحرب في السودان على الصحافة
الأرجح أنه ليس هناك حكومة تمارس حربا معلنة على الصحافة، كما تفعل الحكومة في السودان. وليس هناك صحافيون يعانون من المضايقات والملاحقات الأمنية والمثول أمام المحاكم بشكل متكرر كما في السودان. ..تُغلق الصحف بطلب الأجهزة الأمنية، ويتم إيقاف الصحافيين ويمنعون عن مزاولة مهنتهم، ويستدعون للتحقيق في مكاتب الأمن في مختلف مدن السودان. تعاقب الصحافيات، ويتعرّضن للسجن والمهانة. تعلن السلطة أنها تسمح بهامش للحرية، وليس الحرية الصحافية، وتفرض رقابة فريدة على الصحف، تسميها الرقابة القبلية، أي قبل صدور الصحف. وتكرار مصادرة الصحف لا يجعلها مستغربة، كما جرى مع صحيفة التيار، في الأسبوع الماضي، حين صادر جهاز الأمن جميع نسخ الصحيفة يومي السبت والثلاثاء، بعد طباعتها مرتين في غضون 72 ساعة، من دون إبداء الأسباب.
بمعنى آخر، هو استهداف يتم مع سبق الإصرار والترصد وانتظار الفراغ من طباعة العدد، والتدخل قبل التوزيع ومصادرة الصحيفة. أسباب المصادرة كما أوردتها "التيار" مقال عنوانه "حملات الإنقاذ الانتقامية"، ومن قبله نشرها حوارا مع رئيس الحركة الشعبية لتحرير السودان عبد العزيز آدم الحلو، فاعتبر الأمن أن في الأمر تجاوزا من الصحيفة للخطوط الحمراء، إذ تجاوزت توجيهات وتحذيرات شفاهية صدرت لرؤساء تحرير الصحف بعدم نشر التصريحات والمقابلات مع قادة الحركات المسلحة، "إيجابية كانت أو سلبية".
ومهما كان، فإن مصادرة أجهزة الأمن السودانية الصحف من المطابع، يتم لأغراض انتقامية، وتكبيد مالكي الصحف المستهدفة خسائر مالية كبيرة. وقد جعلت هذه المعاناة المتواصلة للصحف والصحافيين خبير حقوق الإنسان، أريستيد نونونسي، يتحدث بقلق أن جهاز الأمن السوداني يقوم بترهيب الصحافيين وتخويفهم، ويبدي قلقا أكبر إزاء استمرار الرقابة على الصحف في البلاد، وتقييد حرية الصحافيين، ومنعهم من التعبير عن آرائهم بحرية. ويأخذ السودان، في تصنيف منظمة "مراسلون بلا حدود"، المرتبة 174 بشأن أوضاع حرية الصحافة والتعبير (بين 180 دولة).
ويلفت النظر أن الصحافيات في السودان أصبحن في مقدمة المستهدفين من الأجهزة الأمنية،
توقيفا وتحقيقات ومنعا من الكتابة. ومثالا، صدرت أخيرا إدانات طاولت صحافيات من محكمة الصحافة، وتعرضت سهير عبد الرحيم لعقوبة الغرامة ثلاثة آلاف جنيه سوداني (150 دولاراً)، لما قيل إنه توجيهها انتقادات للشرطة التي نظمت مؤتمرا صحافيا للإعلان عن القبض على "لص أحذية"، ما اعتبرته الشرطة مسيئا لها واستخفافا بها. وتم تغريم الصحافية أمل هباني عشرة آلاف جنيه لبلاغٍ من رجل أمن اتهمته بضربها في أثناء جلسة محاكمة، ورفضت أمل التي شغلت قضيتها الرأي العام في السودان سداد الغرامة، ما اقتضى حبسها أربعة أشهر. وتدخل صحافيون، وجمع تكتل "لا لقهر النساء" الذي تنشط فيه أمل، تبرعات مالية مكّنت من دفع الغرامة المالية وإطلاق سراحها .
ويلاحظ أن معظم القضايا والأحكام التي صدرت في السودان بحق الصحف والصحافيات تدور حول الفساد الذي تسعى جهات متنفذة في الدولة لمداراته ومنع تناوله في وسائل الإعلام. وقد جعل هذا الوضع المرهق الصحافيات يلجأن إلى تأسيس أول تشكيل مدني خاص بهن يتولى الدفاع عنهن. وكن أيضا وراء مبادرة رئيس حزب الأمة المعارض، الصادق المهدي، تأسيس صندوق مالي من التبرعات، يخصص لسداد غرامات الصحافيين والصحافيات من ضحايا انتهاك حرية التعبير، وتشكلت مجموعة من المحامين للدفاع بشكل دائم عن الصحافيين والكتاب أمام المحاكم.
وقد ذكرت منظمة صحافيون لحقوق الإنسان (جهر) أن الأجهزة الأمنية في السودان تخطر
الصحف بالمحظورات والخطوط التي ينبغي عدم تجاوزها، ومن ذلك منع إجراء لقاءات وحوارات صحافية مع قادة المعارضة المسلحة، وعدم نشر أخبار الاعتقالات ودعاوى التعذيب في أقسام أجهزة الأمن، وألا تنشر أخبار العنف الموجه ضد النساء، وخصوصا الادعاءات بالاغتصاب. وطاول ذلك نشر الأخبار والتقارير الصحافية عن الأوبئة، مثل الكوليرا، والتزام الوصف الحكومي "إسهالات مائية"، وعدم نشر أخبار عن أعداد القتلى من القوات السودانية المشاركة في الحرب في اليمن، والتزام الرواية الرسمية للناطق الرسمي للجيش، وعدم التعرّض لرئيس الجمهورية وعائلته، وخصوصا في قضايا الفساد المنسوبة لأسرة الرئيس وأشقائه، ومحظورات أخرى.
وإذا ما تخيلنا أن هذه الملاحقات والقضايا وتعليق صدور الصحف ومصادرتها، ومنع الصحافيين من الكتابة وتعريضهم للسجن والعقوبات، وضيق الحكومة بمجرد هامش للحرية، فإن الأمر يبدو أشبه بحرب بين السلطات الأمنية والصحف والصحافيين. وكل حصيف لا بد أن يرى أنه في بلد يعج بأزمات سياسية واقتصادية واجتماعية كالسودان، فليس هناك ما هو أفضل من طرح هذه الأزمات جميعها تحت المجهر الصحافي، ليقف المجتمع على حقيقة الأوضاع وخطورتها، ومن ثم تدارك الخطر الداهم قبل فوات الأوان.
مصباح الصحافة الكشّاف لا تطيقه فئات متنفذة وغارقة في أوحال الفساد، وتستهويها صناعة الأزمات التي تتيح لها متنفساً لتحيا وتغرق معها السودان في أوحال الفوضى والفساد.
بمعنى آخر، هو استهداف يتم مع سبق الإصرار والترصد وانتظار الفراغ من طباعة العدد، والتدخل قبل التوزيع ومصادرة الصحيفة. أسباب المصادرة كما أوردتها "التيار" مقال عنوانه "حملات الإنقاذ الانتقامية"، ومن قبله نشرها حوارا مع رئيس الحركة الشعبية لتحرير السودان عبد العزيز آدم الحلو، فاعتبر الأمن أن في الأمر تجاوزا من الصحيفة للخطوط الحمراء، إذ تجاوزت توجيهات وتحذيرات شفاهية صدرت لرؤساء تحرير الصحف بعدم نشر التصريحات والمقابلات مع قادة الحركات المسلحة، "إيجابية كانت أو سلبية".
ومهما كان، فإن مصادرة أجهزة الأمن السودانية الصحف من المطابع، يتم لأغراض انتقامية، وتكبيد مالكي الصحف المستهدفة خسائر مالية كبيرة. وقد جعلت هذه المعاناة المتواصلة للصحف والصحافيين خبير حقوق الإنسان، أريستيد نونونسي، يتحدث بقلق أن جهاز الأمن السوداني يقوم بترهيب الصحافيين وتخويفهم، ويبدي قلقا أكبر إزاء استمرار الرقابة على الصحف في البلاد، وتقييد حرية الصحافيين، ومنعهم من التعبير عن آرائهم بحرية. ويأخذ السودان، في تصنيف منظمة "مراسلون بلا حدود"، المرتبة 174 بشأن أوضاع حرية الصحافة والتعبير (بين 180 دولة).
ويلفت النظر أن الصحافيات في السودان أصبحن في مقدمة المستهدفين من الأجهزة الأمنية،
ويلاحظ أن معظم القضايا والأحكام التي صدرت في السودان بحق الصحف والصحافيات تدور حول الفساد الذي تسعى جهات متنفذة في الدولة لمداراته ومنع تناوله في وسائل الإعلام. وقد جعل هذا الوضع المرهق الصحافيات يلجأن إلى تأسيس أول تشكيل مدني خاص بهن يتولى الدفاع عنهن. وكن أيضا وراء مبادرة رئيس حزب الأمة المعارض، الصادق المهدي، تأسيس صندوق مالي من التبرعات، يخصص لسداد غرامات الصحافيين والصحافيات من ضحايا انتهاك حرية التعبير، وتشكلت مجموعة من المحامين للدفاع بشكل دائم عن الصحافيين والكتاب أمام المحاكم.
وقد ذكرت منظمة صحافيون لحقوق الإنسان (جهر) أن الأجهزة الأمنية في السودان تخطر
وإذا ما تخيلنا أن هذه الملاحقات والقضايا وتعليق صدور الصحف ومصادرتها، ومنع الصحافيين من الكتابة وتعريضهم للسجن والعقوبات، وضيق الحكومة بمجرد هامش للحرية، فإن الأمر يبدو أشبه بحرب بين السلطات الأمنية والصحف والصحافيين. وكل حصيف لا بد أن يرى أنه في بلد يعج بأزمات سياسية واقتصادية واجتماعية كالسودان، فليس هناك ما هو أفضل من طرح هذه الأزمات جميعها تحت المجهر الصحافي، ليقف المجتمع على حقيقة الأوضاع وخطورتها، ومن ثم تدارك الخطر الداهم قبل فوات الأوان.
مصباح الصحافة الكشّاف لا تطيقه فئات متنفذة وغارقة في أوحال الفساد، وتستهويها صناعة الأزمات التي تتيح لها متنفساً لتحيا وتغرق معها السودان في أوحال الفوضى والفساد.