07 يوليو 2020
هذا الإذلال في العلاقات الدولية
لا يعتبر اغتيال المعارضين السياسيين، أو اختطافهم وتعذيبهم، أمرًا غريبًا على الأنظمة الاستبدادية عبر التاريخ، والتي لا تألو جهدًا في قمع كل من يعارضها سجنًا أو نفيًا أو قتلًا، وقد شكلت أنظمة عربية فرقًا لتنفيذ الاغتيالات ضد المعارضين السياسيين، لحسم الصراع على السلطة، بوصمهم "خونة، جواسيس، عملاء" يهدّدون أمن البلاد. وقد استفادت نظم الاستبداد، على اختلاف أنواعها ودرجات استبدادها، في الآونة الأخيرة، من صعود أحزاب وحركات يمينية شعبوية في دول مؤثرة في رسم السياسات الدولية، من أجل التغوّل في ممارسة القمع. إذ تتسم الحركات الشعبوية التي وصلت إلى الحكم في دول غربية بالنزعة البراغماتية واللاعقلانية في سلوكها، فالشعبويون هم أقل التزامًا بالأيديولوجيات، وبالتالي بالقيم والأعراف والأخلاقيات السائدة في النظام الدولي، ويبدون براغماتيين في سبيل تحقيق مصالحهم، ويغلب على تعاملاتهم المنطق التجاري القائم على تحقيق أرباحٍ من صفقات مع الدول.
ساهم صعود اليمين المتطرّف في عدد من الدول في الحط من قدر التقاليد والأعراف الدولية التي حكمت النظام الدولي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. وانعكس ذلك في الحط من قدر الدولة، وأضعف من سيادتها، وباتت الحاجة ضروريةً لإعادة تعريف وظائفها ودور مؤسساتها وآلية عملها وطبيعة العلاقة بين تلك المؤسسات والمواطن في ظل خطاب شعبوي، يحاول الانقلاب على كل ما هو مؤسساتي. حالات الاختفاء والاختطاف الدولي لمعارضين وسياسيين التي بات يشهدها النظام الدولي تدق ناقوس الخطر حول تلك القيم والأعراف والتقاليد الدولية. شهد النصف الثاني من العام الحالي اختفاء مينغ هونغ وي رئيس منظمة الشرطة الجنائية الدولية (الإنتربول)، في أثناء رحلته إلى الصين، واغتيال الجاسوس الروسي السابق سيرجي سكريبال، وتوجيه أصابع الاتهام إلى الاستخبارات العسكرية الروسية في بريطانيا، وحادثة قتل الصحافية التلفزيونية البلغارية، فيكتوريا مارينوفا، بعد اغتصابها وخنقها ورمي جثّتها في حديقة عامة في بلغاريا، وحادثة مقتل الصحافي السعودي، جمال خاشقجي، في قنصلية بلاده في إسطنبول.
أصبحنا نعيش في عالم يبدو فيه أن القهر الاجتماعي وإذلال كل معارض سياسي هو المنطق
الذي سيحكم سلوك النظم السياسية من دون رادع أو رقيب في تعاملها في المرحلة المقبلة، والذي لا تشفع له قوانين اللجوء الإنساني، أو السياسي، في منفاه القسري، ولا حتى الاتفاقيات الدولية التي كانت تفرض حدا أدنى من الالتزام الأخلاقي والسياسي لبعض الدول. ولا يقتصر الأمر على المعارضين السياسيين، بل يشمل أيضًا المهاجرين الفارّين من جحيم الحروب والفقر وانعدام الأمن وعنف الجماعات الإرهابية التي غذّتها القوى الغربية، في سعيها إلى تحقيق مصالحها الاقتصادية في دول أفريقيا جنوب الصحراء، والمنطقة العربية. لم تشفع لكل هؤلاء المنظمات الدولية غير الحكومية التي تنادي بحرية الصحافة والإعلام وحرية الأفراد، ولم تشفع لهم كل المؤتمرات التي تعقد في الأمم المتحدة بشأن حقوق الإنسان، ما يعني أن عوارًا وخللًا أصاب النظام الدولي ومؤسساته التي لم تعد قادرةً على تكريس منظومة من القيم والقوانين التي تلتزم بها الدول، وتراعيها، في زمنٍ باتت المجتمعات جزءًا مهما في العلاقات الدولية، لا يمكن تجاوزه أو القفز عليه، وهو خللٌ يضاف إلى الخلل الذي أصاب الوحدة الأساسية في النظام الدولي، وهي الدولة Nation State.
تجلى الإذلال في أكثر صوره قتامةً وسوداويةً في تصريحات الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، والذي طالب بمنع المهاجرين من الوصول إلى الولايات المتحدة الأميركية، متجاهلًا أنه ابن لعائلة مهاجرة، ونفى عنهم صفة البشر، ووصفهم بالحيوانات، وجدت تلك التصريحات صداها في القارة العجوز، فقد رفض وزير الداخلية الإيطالية، ماتيو سالفيني، السماح بنزول نحو 170 مهاجرًا من سفينة تابعة لخفر السواحل، بعد رسوّها في صقلية. المفارقة أن الحكومة الإيطالية استضافت مؤتمرًا دوليًا في صقلية (مؤتمر باليرمو) لحل الأزمة الليبية على بعد كيلومترات من أمواج البحر المتوسط التي تحمل قوارب الموت. ناهيك عن الهجوم اللفظي والعنف الرمزي الذي يمارسه قادة أحزاب وحركات يمينية أوروبية على المهاجرين، والتوظيف السياسي لقضيتهم الإنسانية في برامجهم الانتخابية، وتعبئة الجماهير وتحشيدهم. وغالبًا ما يترجم عنفًا وإذلالًا ماديًا على المهاجرين، بسبب لونهم أو لباسهم، وكثير ممن وقع عليهم ذلك العنف يقيمون بطريقة قانونية؛ لا بل منهم كامل المواطنة ويحمل جنسية البلد الذي يقيم فيه.
تبدو صورة الإذلال وممارسة القهر، في المنطقة العربية، مبدأ ناظمًا للقوى الاستبدادية وقوى
الثورة المضادة، منذ تصدّرت المشهد السياسي والعسكري بعد سنوات قليلة من الانتفاضات العربية في 2011، والتي بشّرت بزوال نظم الاستبداد ونهاية الظلم والقهر الاجتماعي الذي مارسته عقودا. واللافت أن الدول التي انتصرت فيها الثورة المضادة، وأخفقت القوى الثورية في إيجاد بديل ديمقراطي عن النظام السياسي القائم، قد نسجت تحالفًا مع القوى الإقليمية التي ترى في الحرية والديمقراطية تهديدًا لها، هذا التحالف غير معلن، لكنه يصبّ في خدمة هدف واحد، وهو إلغاء كل المطالب التي تنادي بالحرية والكرامة، وكانت الأداة الأساسية في تنفيذ ذلك هو الإذلال بأنواعه المختلفة.
الإذلال، كما يصفه برتران بادي، في كتابه "زمن المذلولين" هو "تلك الظاهرة الاجتماعية بامتياز لنظام دولي يتنازعه فيض القوة والنقص المتنامي لفاعلية الأخيرة"، فلم تعد النزاعات والصراعات فيه تعكس المنافسة، وإنما عدم المساواة. وقد فرض الإذلال نفسه بوعيٍ أو بلا وعي على نمط السلوك الدولي، لا بل تجسّد بأشكال دبلوماسية، تكاد تكون ممأسسة وعملانية، وتعمل بصورة روتينية، كطرائق وجود سلوكٍ نعتبرها بديهية وحتمية ولا مفر منها: كأن يتم الإعلان من موسكو عن مستقبل سورية، أو أن نحظر على إيران أو كوريا الشمالية امتلاك السلاح النووي، فيما نجيز ذلك لإسرائيل. أو كأن نقلل من شأن تدخل قوة ناهضة في حل مسألة دولية حسّاسة.
ساهم صعود اليمين المتطرّف في عدد من الدول في الحط من قدر التقاليد والأعراف الدولية التي حكمت النظام الدولي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. وانعكس ذلك في الحط من قدر الدولة، وأضعف من سيادتها، وباتت الحاجة ضروريةً لإعادة تعريف وظائفها ودور مؤسساتها وآلية عملها وطبيعة العلاقة بين تلك المؤسسات والمواطن في ظل خطاب شعبوي، يحاول الانقلاب على كل ما هو مؤسساتي. حالات الاختفاء والاختطاف الدولي لمعارضين وسياسيين التي بات يشهدها النظام الدولي تدق ناقوس الخطر حول تلك القيم والأعراف والتقاليد الدولية. شهد النصف الثاني من العام الحالي اختفاء مينغ هونغ وي رئيس منظمة الشرطة الجنائية الدولية (الإنتربول)، في أثناء رحلته إلى الصين، واغتيال الجاسوس الروسي السابق سيرجي سكريبال، وتوجيه أصابع الاتهام إلى الاستخبارات العسكرية الروسية في بريطانيا، وحادثة قتل الصحافية التلفزيونية البلغارية، فيكتوريا مارينوفا، بعد اغتصابها وخنقها ورمي جثّتها في حديقة عامة في بلغاريا، وحادثة مقتل الصحافي السعودي، جمال خاشقجي، في قنصلية بلاده في إسطنبول.
أصبحنا نعيش في عالم يبدو فيه أن القهر الاجتماعي وإذلال كل معارض سياسي هو المنطق
تجلى الإذلال في أكثر صوره قتامةً وسوداويةً في تصريحات الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، والذي طالب بمنع المهاجرين من الوصول إلى الولايات المتحدة الأميركية، متجاهلًا أنه ابن لعائلة مهاجرة، ونفى عنهم صفة البشر، ووصفهم بالحيوانات، وجدت تلك التصريحات صداها في القارة العجوز، فقد رفض وزير الداخلية الإيطالية، ماتيو سالفيني، السماح بنزول نحو 170 مهاجرًا من سفينة تابعة لخفر السواحل، بعد رسوّها في صقلية. المفارقة أن الحكومة الإيطالية استضافت مؤتمرًا دوليًا في صقلية (مؤتمر باليرمو) لحل الأزمة الليبية على بعد كيلومترات من أمواج البحر المتوسط التي تحمل قوارب الموت. ناهيك عن الهجوم اللفظي والعنف الرمزي الذي يمارسه قادة أحزاب وحركات يمينية أوروبية على المهاجرين، والتوظيف السياسي لقضيتهم الإنسانية في برامجهم الانتخابية، وتعبئة الجماهير وتحشيدهم. وغالبًا ما يترجم عنفًا وإذلالًا ماديًا على المهاجرين، بسبب لونهم أو لباسهم، وكثير ممن وقع عليهم ذلك العنف يقيمون بطريقة قانونية؛ لا بل منهم كامل المواطنة ويحمل جنسية البلد الذي يقيم فيه.
تبدو صورة الإذلال وممارسة القهر، في المنطقة العربية، مبدأ ناظمًا للقوى الاستبدادية وقوى
الإذلال، كما يصفه برتران بادي، في كتابه "زمن المذلولين" هو "تلك الظاهرة الاجتماعية بامتياز لنظام دولي يتنازعه فيض القوة والنقص المتنامي لفاعلية الأخيرة"، فلم تعد النزاعات والصراعات فيه تعكس المنافسة، وإنما عدم المساواة. وقد فرض الإذلال نفسه بوعيٍ أو بلا وعي على نمط السلوك الدولي، لا بل تجسّد بأشكال دبلوماسية، تكاد تكون ممأسسة وعملانية، وتعمل بصورة روتينية، كطرائق وجود سلوكٍ نعتبرها بديهية وحتمية ولا مفر منها: كأن يتم الإعلان من موسكو عن مستقبل سورية، أو أن نحظر على إيران أو كوريا الشمالية امتلاك السلاح النووي، فيما نجيز ذلك لإسرائيل. أو كأن نقلل من شأن تدخل قوة ناهضة في حل مسألة دولية حسّاسة.