بدأت الزوبعة تهدأ قليلًا، حول قضية الفتاة هدير، بعد أن أدلى الجميع بدلوه؛ من المجتمع المدني إلى الأزهر، ومن الشخصيات العامة إلى العامة، ومن الكبير إلى الصغير؛ لم يترك أحد هذه الحكاية إلا وعلّق عليها، صارت الشابة هدير مكاوي في قلب اهتمام المجال العام، واعتبره كثيرون "سبقًا" في المجتمع المصري، بوصفها أمًا عزباء، أو (single mother)، كما في الهاشتاغ الذي اندرجت تحته الحكاية والآراء.
تأخذ الآراء تعليقًا على الواقعة عدة مسارات جذرية في بنيتها بين رفض وقبول، حتى انقلب السّجال جديّا بين معسكرين: رافض تمامًا ومؤيدٌ تمامًا. الرافضون انطلاقًا من مرجعية برجوازية محافظة ذات سمت ديني، مفاده أن هدير "مجاهرة بمعصية" وهي الزنا، بلغت بها الصفاقة والمعصية درجة الاحتفاظ بالطفل، مثلما خرج أحد مشايخ الأزهر على إحدى الفضائيات المصرية ليتهمها صراحة بالزنا.
تفوّق ذكوري
هنا لم يتحدّث الشيخ – ومعه الغاضبون الرافضون – من منطلق ديني فحسب، بل تحرّكهم كذلك غريزة الخوف على السِلم الاجتماعي الذي يمثلونه، وهو ما جعل الشيخ الأزهري يتخفّف من صرامة قاعدته الدينية ليعطي لذلك الخوف صبغة دينية، المفارقة التي تستدعي الانتباه: الحفاظ على الدين عبر كسر قواعده. هذا السلم الاجتماعي، منبعه الأساس إعلان هذه السيدة رغبتها في الاحتفاظ بطفل بعيدًا عن أبيه، أي التخلّي عن التفوّق الذكوري واعتماد الاستقلالية، وهو ما لا تستطيع هذه الفئة الغاضبة التعاطي معه، فلا بد لصاحبة القرار من أن تكون مختلة بصيغة ما، لتخرج على العرف العام على عدة أصعدة: الدينية والاجتماعية والذكورية.
خرجت بعض الأصوات مدّعية التعقل من هذا القطاع المحافظ، لتقول إن المشكلة ليست في الأم العزباء، وخاصّة أن المجتمع مليء بنماذج عديدة من الأرامل والمطلقات اللاتي استطعن النجاة بأولادهن وتربيتهن، غافلين عن نقطة أساسية أن هذه الأم العزباء، أرملة أو مطلقة أو حتى متزوّجة من رجل لا يشارك في المسؤولية، تحاول توفيق أوضاعها في ظروف غير إنسانية تعاديها وتتربّص بها، باعتبارها "آفة" تجري عملية إقصائها حتى تدخل في كنف رجل جديد، أو تستمر في المقاومة الصامتة. فكيف الحال مع أم عزباء لم تمرّ على هذه المقصلة الاجتماعية؟
أمٌ عزباء
المناصرون لهدير وقضيتها، هم أيضًا واقعون - في معظمهم - تحت سلطة تأييد نخبوي، وليس أدل على ذلك من هاشتاغ "سنغل ماذر"، وما له من تداعيات تأويلية سيئة في الذهنية العامة، ما عبّر عنه الباحث النسوي والكاتب إسماعيل فايد: "يجب ألا يكون خطابنا في دعم هدير مرتكزا على صيغ وأفكار ليبرالية بحتة. لأن ذلك سوف يميت أية مساندة من الممكن لهدير أن تحصل عليها، وسوف يتم وصم الخطاب بأنه طبقي ونخبوي (وهو فعلا طبقي ونخبوي)، لأنه لا يصح حسبه أن نقول ادعم هدير ثم نضع هاشتاج (سينغل ماذر)، لأن معظم السيدات في مصر حتى المتزوّجات (سينغل ماذر)، بمعنى أن شريكها لا يفعل شيئًا سوى أنه يلقي إليها ببعض المال، بل وأحيانًا لا يفعل ذلك. فاستعارة المصطلح كما هو غلطة يجب أن نتجاوزها ونفكر في تطوير مصطلحات فعلا تعبر عن الواقع".
يعتبر المتحدّث أن دعم هدير ليس من المفترض أن يتم اختزاله كنوع من النسوية النخبوية الفاقدة لأي حس بواقعها. مضيفًا أن دعم هدير آت من إيماننا بالحرية المطلقة لكل السيدات، من أي طبقة، وبشكل يتجاوز الأفكار الغربية عن الأمومة (سينغل ماذر أو ليست سينغل ماذر ليست هذه مشكلتنا)، في حرّية جسدها وحقوقها الإنجابية كلها، وهذا أمر راديكالي في حدّ ذاته بعيدًا عن هل هي أم عزباء أو لا؟ ويردف قائلًا: "الحقوق الإنجابية للمرأة لا تتجزأ ونسويتنا ليست نسوية سيّدات النخبة والمتعلّمات ومسيورات الحال، نسويتنا لكل السيدات بكل أشكالهن وطبقاتهن".
خطاب المجتمع
هنالك على خلاف المعسكرين، أسئلة إنسانية ذات نفس واقعي قليلًا، أهمها مثلًا: في مجتمع ودولة مثل مصر كل الظروف فيها تعادي المختلف، في أي مجال، أيًا كانت طبيعة اختلافه، ومعاداة الدولة للاختلاف تتحوّل إلى عقاب إقصائي أولًا وقانوني ثانيًا، وهو ما يقع الجميع تحت تهديده، فعند أي حدٍ يمكن الفصل بين الجسارة والرعونة في موقف هدير؟ لا زيادة في مشكلاتها لكن شفقة على ما سوف تواجهه لاحقًا، وخاصّة أن المجتمع المدني في هذا البلد محاصر، لا يستطيع تقديم أكثر من الدعم الخطابي على صفحات "السوشيال ميديا".
صحيح أن المجتمع خطا خطوات واسعة للغاية نحو تغيير بنيته الأخلاقية، وليس أدل على ذلك من الاستقبال العنيف لقضية أحمد عز وزينة وهجوم العامة على عز الذي تخلّى عن أولاده، مقارنة بقضية سبقتها بعشر سنوات لأحمد الفشاوي وهند الحناوي، حينما اتهمت العامة الحناوي بالفسوق والفجور. المسافة بين القضيتين وما حدث بينهما من تغيير يقول إن هذا المجتمع يتغير بالتأكيد.
في كل الأحوال، فقد اختبر المجال العام نفسه وحريّاته، نخبته قبل عامته، خاصّة القطاع المؤيّد للثورة، وقد ظهر من يدافع عن خيارات أخلاقية أكثر تحفظًا والتزامًا من غيره، كأن هذه القضية تأتي في ذلك التوقيت لتنير الضوء على التصنيفات التي صارت قديمة بين ثوري وغير ثوري، وخاصة أن الثورة في واحدة من معانيها الأساسية تمرّد على المنظومة القيمية القديمة، ليتّضح أن بعض الثوريين سياسيًا، لا يطيقون هذا التمرّد على المنظومة القيمية، وعليه فإن هذه القضية برمزيتها ستصير محطّة مهمة في الحريّات الشخصية في المستقبل.