هدية فرنسا للعالم

10 مايو 2017
+ الخط -
صوّت ثلث الفرنسيين لصالح مارين لوبان، وصوت ثلث آخر لصالح مانويل ماكرون، أما الثلث الباقي فصوّت لقطع الطريق على اليمين المتطرّف حتى لا يصل إلى قصر الإليزيه، وليس حبا في الفتى القادم إلى السياسة من عالم المال والأعمال. هكذا تُظهر نتائج اقتراع الرئاسيات الفرنسية انقساما حدا يخترق جسد فرنسا العليل، لكن ديمقراطيتها صامدة، ومؤسساتها قادرةٌ عن صنع التغيير، وفتح الطريق لشاب ليبرالي للوصول إلى الرئاسة في قلب أوروبا، في وقتٍ كان الجميع ينتظر صعود اليمين الفرنسي المتطرّف إلى الرئاسة، ممثلا في حزب الجبهة الوطنية، بعد واقعة البريكسيت (التصويت بالانسحاب من الاتحاد الأوروبي) في بريطانيا، وغزوة دونالد ترامب في أميركا، لكن فرنسا أظهرت أنها بلد عصي على اليمين الشعبوي، فقد اختار 21 مليون ناخب التغلب على الخوف من الإرهاب، ومقاومة إغراء الشعبوية، والابتعاد عن يوتوبيا العودة إلى الأمجاد القومية، وبناء الأسوار في مواجهة أوروبا والعولمة.. قاوم الفرنسيون هذا كله، على الرغم من الوضع الاقتصادي الصعب الذي يعيشونه منذ سنوات، وعلى الرغم من حالة الطوارئ التي تثقل على صدر البلاد، منذ ضرب الإرهاب أكثر من هدف في باريس ومدن أخرى، قاوم الفرنسيون نزعة الانجرار إلى تصويت غير عقلاني عقابي أو انتقامي من النظام (le système)، واختاروا (القطيعة في ظل الاستمرارية) بالتصويت على شاب عمره 39 سنة، لا هو محسوب على اليمين ولا هو محسوب على اليسار، علّه يقود البلاد إلى التغيير الهادئ، من دون صدمةٍ قد تفتح مستقبل البلاد على المجهول.
مع ذلك، لم تمر الانتخابات الفرنسية ليلة الأحد الماضي بلا خسائر، وأولها انهيار معلمين سياسيين كبيرين، لا يقلان رمزية عن برج إيفل، الحزب الاشتراكي والحزب الديغولي اليميني، اللذين سقطا معا، ولأول مرة في ظل الجمهورية الخامسة عن عرش الإليزيه (الرئيس في فرنسا شبه ملك في نظام جمهوري). ومن المرجح أن يسقطا في الانتخابات التشريعية بعد شهر، عنوانا على نهاية مرحلة وبداية أخرى. أما الخسارة الثانية التي تكشفت في أعقاب الانتخابات الرئاسية، في 7 مايو/ أيار الحالي، فهي صيرورة اليمين المتطرّف، بقيادة الجبهة الوطنية، القوة السياسية الأولى في المعارضة، حيث تجاوزت مرشحة اليمين العنصري حاجز العشرة ملايين صوت، وأضحت جبهتها تقترب من أن تصبح القوة السياسية الأولى في فرنسا، خصوصا إذا فشل مشروع إيمانويل ماكرون الذي يعتبر خط الدفاع الأخير في وجه اليمين العنصري، قبل أن يُطفئ أنوار فرنسا.
في عيون العالم، خرجت فرنسا أقوى في ليلة الأحد الكبير في انتظار تأكيد هذا النصر المفاجئ لماكرون في التشريعيات المقبلة، فليس هناك ما يمنعه من تحقيق نتائج طيبة في الانتخابات البرلمانية في يونيو/ حزيران المقبل، فكما كان الرئيس السابق فرنسوا ميتران يقول: "ليس هناك من مبرّر أن يحبني الفرنسيون في مايو، ويكرهوني في يونيو".
في النهاية، ليس ماكرون من سيأتي بالتغيير إلى فرنسا، بل الحاجة الى التغيير هي التي حملت هذا الشاب إلى قمة السلطة في بلد كبير... فأعطت فرنسا هديةً للعالم الذي لم تعد تستهويه أنغام الليبرالية التي شحب وجهها أمام الشعبوية الصاعدة من عمق أزمةٍ كبيرةٍ، تضرب منظومة القيم في أميركا وأوروبا، قبل أن تضرب جيوب المواطنين من الطبقات الوسطى والفقيرة.
A0A366A1-882C-4079-9BED-8224F52CAE91
توفيق بوعشرين

كاتب وصحفي مغربي، رئيس تحرير جريدة "أخبار اليوم" المغربية.