مع استمرارها للأسبوع الثالث على التوالي، وشموليتها لكل أنحاء فلسطين المحتلة، شكّلت الهبة الجماهيرية الفلسطينية مفاجأة لدوائر صناعة القرار الإسرائيلية، والمراقبين الفلسطينيين على حد سواء، ويعود عنصر المفاجأة للاعتقاد الذي ساد، خلال السنوات الأخيرة، من أن الشباب الفلسطيني استجاب لسياسات الاحتواء و"السلام الاقتصادي" الذي طرحه وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، خلال المنتدى الاقتصادي العالمي، الذي عقد في 25 مايو/ أيار 2013 في البحر الميت.
والقائم على إتاحة فرص العمل في السوق الإسرائيلية والمستوطنات، لتكون التنمية الاقتصادية الوهمية ملهاة عن الانشغال بالقضايا الوطنية، أو بوصفها أحد ثلاثة مسارات ستشق، إلى الجانب الأمني والسياسي، انفراجة "جدية وملموسة".
وطرح حزب الليكود الحاكم في إسرائيل بزعامة، بنيامين نتنياهو، أيضا فكرة "السلام الاقتصادي" مع الفلسطينيين كحل بديل لانسحاب الاحتلال الإسرائيلي من الأراضي المحتلة، ويقوم هذا الطرح على تنمية اقتصادية في المدن الفلسطينية من أجل خلق حالة هدوء تتيح استمرار الاستيطان وتدعيمه دون مقاومة، وكسب الوقت من أجل حسم الصراع بحسب الرؤيا الاحتلالية.
ويرى خبراء اقتصاديون، تحدثوا لـ "العربي الجديد"، أن الهبّة أثبتت خطأ الافتراضات التي بنت عليها حكومة نتنياهو من أن "السلام الاقتصادي" سيجعل الشباب الفلسطيني يهمل قضاياه الوطنية، وفي الوقت نفسه ما زالت تعوّل على استمرارية هذا المشروع، خصوصاً وأنها لم تتبن خيارات خنق الفلسطينيين اقتصادياً كما حدث مع بداية الانتفاضة الثانية.
العصا والجزرة
وفي رأي الخبير الاقتصادي، نصر عبدالكريم، فإن "مشروع السلام الاقتصادي لم ينجح، بعد استمرار الهبّة الجماهيرية للأسبوع الثالث وسط غياب المؤشرات على انتهائها قريباً، لكن لا يمكن الحسم أن هذا المشروع قد سقط كلياً".
وقال إن الخشية من عودة هذا المشروع الإسرائيلي تبقى قائمة في حال استجابة القيادة الفلسطينية للجهود التي يبذلها وزير الخارجية الأميركية، جون كيري، لعودة المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية دون أن تقدم حكومة نتنياهو تنازلات حقيقية.
وأوضح عبدالكريم، أن "الهبّة الشعبية الفلسطينية أثبتت خطأ افتراضات رئيس حكومة الاحتلال، بنيامين نتنياهو، أن إراحة الناس اقتصادياً عبر إتاحة حرية نسبية للحركة والتجارة وفتح أسواق العمل في الأراضي المحتلة، يعني تسليمهم الأمر الواقع الذي يفرضه الاحتلال والانصراف عن الحقوق السياسية والوطنية، ولكن ذلك لا يعني تخلي نتنياهو عن مشروعه وإسقاطه تماماً".
وقال إن: "سياسة الحكومة الإسرائيلية ما زالت قائمة على العصا والجزرة، فمن جهة يجري استخدام القوة المفرطة في القمع والإعدامات الميدانية، ومن جهة أخرى ما زالت التصاريح الممنوحة لمعظم العمال والتجار الفلسطينيين سارية".
وأشار الخبير الفلسطيني في حديثه لـ "العربي الجديد"، إلى أن الأجهزة الأمنية الإسرائيلية ما زالت توصي المستوى السياسي بعدم تبني سياسات تهدف إلى خنق الفلسطينيين اقتصادياً في هذه المرحلة، "لأن ذلك يعني إضافة توتر كبير إلى الحالة القائمة واتساع رقعة المواجهات، وهو ما لا يريده المحتل الإسرائيلي حالياً".
اقرأ أيضاً: الانتفاضة الفلسطينية تكلف الاحتلال مليار دولار
وامتنعت الحكومة الإسرائيلية بعد مداولات عقدتها، أخيراً، لدراسة تطورات الأوضاع الميدانية، عن تبني مقترحات المستوطنين بفرض إغلاق شامل على المدن والبلدات الفلسطينية في الضفة الغربية، وأقرت فرض الإغلاق على الأحياء الفلسطينية في القدس المحتلة.
خسارة إسرائيلية
ولفت نصر عبدالكريم، إلى أن التقديرات تفيد أن الاقتصاد الإسرائيلي خسر، حتى الآن، قرابة 5 مليارات شيكل (1.3 مليار دولار) منذ انطلاق شرارة الأحداث الحالية، معظمها كانت في قطاع السياحة واقتصاد المستوطنات.
وقال، إن الخشية الإسرائيلية على المستوى الاستراتيجي، تتمثل في اكتساب الحركة العالمية لمقاطعة إسرائيل وفرض العقوبات عليها وسحب الاستثمارات منها زخماً إضافياً، رداً على القمع والإعدامات في حق الشباب الفلسطيني، حيث تضاعف الجماعات المناهضة لإسرائيل نشاطاتها في العالم بهدف المقاطعة الاقتصادية للاحتلال.
وتراجعت الصادرات الإسرائيلية، العام الماضي، بنسبة 16%، في حين تراجعت الاستثمارات الأجنبية بنسبة 50%، وهو ما يعزز قلق الاحتلال من تأثير المقاطعة في ظل تحقيق الاقتصاد الإسرائيلي نمواً أقل من المتوقع في الأشهر الأخيرة.
فلسطينياً، تبدو الخسارة، حتى الآن، في الحركة التجارية التي تراجعت بشكل ملحوظ، وعلى الرغم من بقاء المواجهات مع جنود الاحتلال على تخوم المدن، وليس في قلبها - باستثناء القدس- إلا أن محدودية الاقتصاد الفلسطيني تجعله مكشوفاً أمام أيّ أحداث أمنية، لاسيما أنه حقق نمواً سالباً، خلال العام الماضي، مع تداعيات العدوان الأخير على قطاع غزة.
العمالة الفلسطينية
ويرى الكاتب والباحث الاقتصادي، أيهم أبو غوش، أن إبقاء الاحتلال الإسرائيلي على التصاريح الممنوحة للعمال والتجار الفلسطينيين سارية، يعني أنه لم يقر بعد بفشل ما يسميه المسار الاقتصادي للتعامل مع الجانب الفلسطيني.
ووصل، خلال الأشهر الأخيرة، عدد التصاريح إلى مستوى قياسي لم يبلغه من قبل، ويجري الحديث عن 150 ألف تصريح ممنوحة للتجار والعمال في الضفة الغربية وقطاع غزة.
وقال أبو غوش لـ "العربي الجديد": "إذا ما أقدمت إسرائيل على سحب التصاريح واستبدال العمالة الفلسطينية بأخرى مستقدمةً من الخارج، فإن ذلك يعني أن الهبّة الشعبية وصلت مرحلةَ اللاعودة، وأن الاحتلال قرر تبني الخنق الاقتصادي بدلاً من السلام الاقتصادي".
ويلاحظ أن معظم المشاركين في الفعاليات المناهضة للاحتلال، منذ بداية الشهر الماضي، هم من طلبة المدارس والجامعات، إذ تقل أعمار أغلبهم عن 24 عاماً، وهم الفئة الذين لا تربطهم أي مصلحة عمل أو وظيفة بكل من الاحتلال والسلطة الفلسطينية، ولكنهم ضاقوا ذرعاً بانتهاكات الاحتلال والمستوطنين.
اقرأ أيضاً:
10.8 مليون دولار خسائر الاحتلال من حجارة المقدسيين
"الانتفاضة" ترعب الاقتصاد الإسرائيلي