أيّ رجل شيخ معمّم هو بالنسبة إليّ كائن غريب. عشت دوماً على مسافة بعيدة عن المجتمعات التي يحتلّ فيها رجال الدين سلطة رقابة وتوجيه. لم أعرف يوماً تلك الحياة المنتظمة على إيقاع الصلوات والمواعظ الدينية.
باختصار، كل رجل دين هو بنظري "أجنبي". لا أفقه لغته، لا أدري ما يجوز وما لا يجوز التصرّف معه. كما لو أنّ الشخص الذي يرتدي الجلباب والعمامة، يفترق عن عالم الرجال، ويصير هكذا كائناً غرائبياً، يصعب عليّ تخيّل معاشرته، التعرّف إليه، محادثته، فضلاً عن فكرة المزاح معه مثلاً.
لم أعرف سوى هاني فحص، "السيّد هاني" كما يناديه الجميع. ومن دون أن ننتبه نقول "السيّد هاني" بلهجة جنوبية كاسرين السين والياء كسراً مائعاً، ودوماً بابتسامة خفيفة.
لا ندري لماذا نتلفّظ اسمه بهذه اللكنة الريفية، كما لو أنّنا نقلد أهل القرى وهم يتودّدون إلى شيخهم الذي يرعى شؤونهم اليومية. كأنّنا في بيروت، حيث عشنا حياتنا العلمانية، وجدنا فيه وحده ما يناسب مخيّلتنا عن الشيخ الطيّب، الذي لا تزيد العمامة ولا تنقص من مكانته، طالما أنّه كان يعاشرنا ويخالطنا من دون أن "يمثّل" علينا دور رجل الدين.
نناديه أيضاً "مولانا". وهو يعرف أننا لسنا ممن يبحثون عن مولى، ونحن نعرف أنّه لا يبحث عن لقب كهذا. هذا تواطؤ أدبي، ما دمنا لن نناديه يا أستاذ مثلاً، رغم أنّه كاتب وصحافي محترف وعتيق في المهنة، ومحاضر في الكثير من الجامعات وخطيب على منابر سياسية لا تحصى.
لن يكون هاني فحص إلا شيخاً "سيّداً" من سلالة آل البيت، لكن هذا لا يسع كلّ ما هو عليه، كأن يكون مؤرّخاً وأديباً وناقداً في الشعر والرواية، وسياسياً وفقيهاً، ومناضلاً وثورياً، وصحافياً لا نعرف جريدة عربية لم "تتلطخ" بكتاباته.
لا يكفي لقب الشيخ لندلّ إليه، فهو أيضاً اللبناني اليساري، و"أخ" لياسر عرفات في "حركة فتح"، وصديق كمال جنبلاط ومحسن ابراهيم وجورج حاوي في "الحركة الوطنية اللبنانية"، ورفيق الخميني (في زمن الثورة لا في زمن السلطة)، والمنحاز فيما بعد إلى "الفكرة اللبنانية" الليبرالية والديمقراطية، ثم هو صديقنا، نحن معشر المنغمسين في الثقافة والفنون والشأن العام وزملاء المهنة.
لكن الأهم بالنسبة لنا هو أنّه صديقنا نحن العلمانيين الذين لا يطيقهم رجال الدين. هو مدبّر شؤون زيجاتنا وطلاقاتنا وحتّى جنازاتنا، نحن الذين نعيش بعيداً عن طوائفنا.
كلّ شاب وفتاة منّا يقعان في الحب، نأخذهما إلى السيد هاني ليتزوّجا، إذ نعرف أنّه لن يهتم إلا لقرارهما الحر، سيتواطأ معنا على المهر الوهمي، المقدّم والمؤخّر، وعلى عدم وجود أهل وأوصياء ما دام الحبيبان في سنّ الرشد.
لن يهتمّ بالمذهب أو حتّى بالطائفة. وبالأخصّ لن يهتم بضيق الحال وأن لا بدل أتعاب له إطلاقاً. غالباً ما يفتح الباب ويعرف من فور وجودنا أنّ هناك مشروع زواج، فيبدأ بالتمثيل علينا أنه منزعج: "ليش جايبين معكن يوسف؟ هذا بلا دين.. لا أقبل شهادته"، ثم يعانقني مقبّلاً وجنتيّ، مقهقهاً من الضحك: "يا زعران، وين أهلكم؟". كلّ الأصحاب تزوّجوا عنده.
أقصد أنّ هؤلاء العلمانيين واليساريين واللاأدريين.. المثقفين وأساتذة الجامعات والكتّاب والشعراء والإعلاميين، وعلى امتداد أكثر من ثلاثة أجيال، كان هو "كاتب كتابهم"، هو "مأذونهم"، كما يقول المصريون. في العام 2000، دخل إلى مكتبنا في الصحيفة. سألني عن أحوال زوجتي "السابقة"، التي كان يحبّها ويحبّ لوحاتها، طمأنته أنها باتت الآن "الغيرل فريند".
نظر إليّ: "ولاه، بتستحليها بالحرام وهي كانت حلالك؟ بلا لعب، ارجعلها أحسن ما فكّ رقبتك يا عكـر(...)". فاتّصلت بها كي تأتي إلى المكتب. أمسك ورقة وقلماً وكتب عقد الزواج بسرعة هائلة كأنّه يسبق أيّ احتمال أن أستفيق من الصدمة. فعل زيجات كثيرة على هذا المنوال.
ديما التي أرادت الزواج من سوريّ، لم تقبل "المحكمة الشرعية" إنجاز معاملات زواجهما لأسباب مذهبية، لم يجدا إلا السيّد هاني يستقبلهما في بيته، قاطعاً قيلولة بعد الظهر، منادياً على "أم حسن" زوجته أن تسلّم عليّ: عجبك يا أم حسن؟ هذا يوسف بزّي الذي يزعجني على طول.
حازم (الأرثوذكسي) وشذا الشيعية، فادي ومنيرة، فيديل وبسمة في زواجهما وطلاقهما، أنا وريم... كل شلّتنا لا شيخ لها سوى "مولانا" هاني فحص. ثم من سواه يقرأ الفاتحة لنا، من سواه يؤبّن موتانا، وهو يعرف أنّنا جهلاء في مراسم وطقوس كهذه.
يعرفه الناس جليس المطارنة والبطاركة وصديقهم، رجل الدين الشيعي الذي يحبّه الأزهريون والنجفيون واليسوعيون، أكثر مما يحبّه بعض أهل ملّته المأخوذين بشيوخ التجهّم والسلاح والصراخ والعصبية المقاتلة. يعرفونه هكذا، رَحِباً بطمأنينته الدينية، بوفاقيته السياسية، بليبراليته الفكرية، بيساريته الإنسانية. أما نحن فنعرفه "مولانا"، الذي يسهّل علينا ديننا، بسماحته العلمانية.
باختصار، كل رجل دين هو بنظري "أجنبي". لا أفقه لغته، لا أدري ما يجوز وما لا يجوز التصرّف معه. كما لو أنّ الشخص الذي يرتدي الجلباب والعمامة، يفترق عن عالم الرجال، ويصير هكذا كائناً غرائبياً، يصعب عليّ تخيّل معاشرته، التعرّف إليه، محادثته، فضلاً عن فكرة المزاح معه مثلاً.
لم أعرف سوى هاني فحص، "السيّد هاني" كما يناديه الجميع. ومن دون أن ننتبه نقول "السيّد هاني" بلهجة جنوبية كاسرين السين والياء كسراً مائعاً، ودوماً بابتسامة خفيفة.
لا ندري لماذا نتلفّظ اسمه بهذه اللكنة الريفية، كما لو أنّنا نقلد أهل القرى وهم يتودّدون إلى شيخهم الذي يرعى شؤونهم اليومية. كأنّنا في بيروت، حيث عشنا حياتنا العلمانية، وجدنا فيه وحده ما يناسب مخيّلتنا عن الشيخ الطيّب، الذي لا تزيد العمامة ولا تنقص من مكانته، طالما أنّه كان يعاشرنا ويخالطنا من دون أن "يمثّل" علينا دور رجل الدين.
نناديه أيضاً "مولانا". وهو يعرف أننا لسنا ممن يبحثون عن مولى، ونحن نعرف أنّه لا يبحث عن لقب كهذا. هذا تواطؤ أدبي، ما دمنا لن نناديه يا أستاذ مثلاً، رغم أنّه كاتب وصحافي محترف وعتيق في المهنة، ومحاضر في الكثير من الجامعات وخطيب على منابر سياسية لا تحصى.
لن يكون هاني فحص إلا شيخاً "سيّداً" من سلالة آل البيت، لكن هذا لا يسع كلّ ما هو عليه، كأن يكون مؤرّخاً وأديباً وناقداً في الشعر والرواية، وسياسياً وفقيهاً، ومناضلاً وثورياً، وصحافياً لا نعرف جريدة عربية لم "تتلطخ" بكتاباته.
لا يكفي لقب الشيخ لندلّ إليه، فهو أيضاً اللبناني اليساري، و"أخ" لياسر عرفات في "حركة فتح"، وصديق كمال جنبلاط ومحسن ابراهيم وجورج حاوي في "الحركة الوطنية اللبنانية"، ورفيق الخميني (في زمن الثورة لا في زمن السلطة)، والمنحاز فيما بعد إلى "الفكرة اللبنانية" الليبرالية والديمقراطية، ثم هو صديقنا، نحن معشر المنغمسين في الثقافة والفنون والشأن العام وزملاء المهنة.
لكن الأهم بالنسبة لنا هو أنّه صديقنا نحن العلمانيين الذين لا يطيقهم رجال الدين. هو مدبّر شؤون زيجاتنا وطلاقاتنا وحتّى جنازاتنا، نحن الذين نعيش بعيداً عن طوائفنا.
كلّ شاب وفتاة منّا يقعان في الحب، نأخذهما إلى السيد هاني ليتزوّجا، إذ نعرف أنّه لن يهتم إلا لقرارهما الحر، سيتواطأ معنا على المهر الوهمي، المقدّم والمؤخّر، وعلى عدم وجود أهل وأوصياء ما دام الحبيبان في سنّ الرشد.
لن يهتمّ بالمذهب أو حتّى بالطائفة. وبالأخصّ لن يهتم بضيق الحال وأن لا بدل أتعاب له إطلاقاً. غالباً ما يفتح الباب ويعرف من فور وجودنا أنّ هناك مشروع زواج، فيبدأ بالتمثيل علينا أنه منزعج: "ليش جايبين معكن يوسف؟ هذا بلا دين.. لا أقبل شهادته"، ثم يعانقني مقبّلاً وجنتيّ، مقهقهاً من الضحك: "يا زعران، وين أهلكم؟". كلّ الأصحاب تزوّجوا عنده.
أقصد أنّ هؤلاء العلمانيين واليساريين واللاأدريين.. المثقفين وأساتذة الجامعات والكتّاب والشعراء والإعلاميين، وعلى امتداد أكثر من ثلاثة أجيال، كان هو "كاتب كتابهم"، هو "مأذونهم"، كما يقول المصريون. في العام 2000، دخل إلى مكتبنا في الصحيفة. سألني عن أحوال زوجتي "السابقة"، التي كان يحبّها ويحبّ لوحاتها، طمأنته أنها باتت الآن "الغيرل فريند".
نظر إليّ: "ولاه، بتستحليها بالحرام وهي كانت حلالك؟ بلا لعب، ارجعلها أحسن ما فكّ رقبتك يا عكـر(...)". فاتّصلت بها كي تأتي إلى المكتب. أمسك ورقة وقلماً وكتب عقد الزواج بسرعة هائلة كأنّه يسبق أيّ احتمال أن أستفيق من الصدمة. فعل زيجات كثيرة على هذا المنوال.
ديما التي أرادت الزواج من سوريّ، لم تقبل "المحكمة الشرعية" إنجاز معاملات زواجهما لأسباب مذهبية، لم يجدا إلا السيّد هاني يستقبلهما في بيته، قاطعاً قيلولة بعد الظهر، منادياً على "أم حسن" زوجته أن تسلّم عليّ: عجبك يا أم حسن؟ هذا يوسف بزّي الذي يزعجني على طول.
حازم (الأرثوذكسي) وشذا الشيعية، فادي ومنيرة، فيديل وبسمة في زواجهما وطلاقهما، أنا وريم... كل شلّتنا لا شيخ لها سوى "مولانا" هاني فحص. ثم من سواه يقرأ الفاتحة لنا، من سواه يؤبّن موتانا، وهو يعرف أنّنا جهلاء في مراسم وطقوس كهذه.
يعرفه الناس جليس المطارنة والبطاركة وصديقهم، رجل الدين الشيعي الذي يحبّه الأزهريون والنجفيون واليسوعيون، أكثر مما يحبّه بعض أهل ملّته المأخوذين بشيوخ التجهّم والسلاح والصراخ والعصبية المقاتلة. يعرفونه هكذا، رَحِباً بطمأنينته الدينية، بوفاقيته السياسية، بليبراليته الفكرية، بيساريته الإنسانية. أما نحن فنعرفه "مولانا"، الذي يسهّل علينا ديننا، بسماحته العلمانية.