التجربة التاريخية الحيّة هي موضوعة أستاذ الأدب المقارن نيل غوردون. فرغم أنه حاصل على درجة الدكتوراه في الأدب الفرنسي، وله عدد كبير من مقالات النقد الأدبي، إلا أنه اتخذ الموضوع السياسي/ التاريخي موضوعة رئيسية له، سواء في رواياته المنشورة أو في دروسه التي يلقيها على طلبة جامعة "المدرسة الجديدة" (The New School) في نيويورك، أو خلال سنواته الثلاث التي قضاها منذ وقت قريب عميداً ونائباً للرئيس وأستاذاً في "الجامعة الأميركية" في باريس.
رواياته الأربع على التوالي هي "التضحية بإسحق" و"ابنة مهرّب الأسلحة" و"الصحبة التي تحافظ عليها" و"أنت فتاة كبيرة الآن". وفيها كلها نجد أن الخيط الرابط بينها انشغالها بالموضوعة السياسية. تروي الأخيرة قصة اليسار الأميركي منذ الحرب الأهلية الإسبانية وصولاً إلى احتلال "وول ستريت" عام 2011.
وتتناول الرواية الأولى مشاهداته وتجربته في فلسطين التي عاش فيها لمدة سنتين في مطلع سبعينيات القرن العشرين، وبخاصة في مناطق فلسطين 1948، حسب تعبيره الدقيق وليس حسب ما يشار إليها في الإعلام بشكل عام باسم "إسرائيل". وتدور روايته الثانية حول أميركا وإسرائيل وتجارة السلاح، أما الرواية الثالثة فموضوعها أحوال اليسار الراديكالي الأميركي خلال حرب أميركا في فيتنام.
ومن الاطلاع على منهجه التعليمي، وعناوين الدروس التي يقررها على تلاميذه، يتبيّن أنه معني عناية خاصة بموضوعة مقاومة النزعات العنصرية ومخلّفات العصر الاستعماري، مثل وجود دولة جنوب أفريقيا وكيان دولة إسرائيل.
فهذا الأكاديمي والروائي المولود في جنوب أفريقيا لعائلة هاربة من العداء للسامية في ليتوانيا قبل الحرب العالمية الثانية، والتي قاومت رغم انتمائها للأقلية البيضاء سياسة الفصل العنصري، عاش في جو سياسي خالص منذ طفولته، وبعد هجرته مع عائلته إلى أميركا في الخمسينيات حين كان عمره ثلاث سنوات، ترعرع في وسط سياسي يغلي أيضاً، وشهد في صباه سنوات الحرب الأميركية في فيتنام وحركات الاحتجاج على الحرب، وكل هذا جعل منه شخصاً سياسياً كما يقول.
أبرز دروسه القادمة في ربيع العام 2016، سيكون مقرّراً بعنوان " قراءة فلسطين". وفي هذا المقرّر سيدرس الطلبة قدرة الرواية على تعزيز فهم عميق للتجربة التاريخية الحية، وذلك خلال فحص الواقع وحياة الناس في المنطقة الجغرافية الأوسع التي رسمت حدودها اتفاقية سايكس/بيكو (1916) بوصفها "فلسطين"، والتي أعيد تحديدها في حرب 1948 تحت اسم "إسرائيل" و"الضفة الغربية"، وعُرفت منذ عدوان حزيران (1967) باسم إسرائيل و"الأراضي الفلسطينية" أو "الأراضي المحتلة". مع رؤية أن واقع اليوم المعقد قادت إليه معطيات تاريخية علينا فحصها.
وسيطرح الدرس أسئلة على غرار؛ ما هي حقيقة المشروع الصهيوني المعاش في الييشوف (الاسم الذي يطلق على المستوطنة اليهودية في سورية الجنوبية العثمانية وفلسطين خلال ما يسمى الانتداب البريطاني) هل كان صراعاً من أجل البقاء والحياة الطبيعية أم المشاركة في سياسة التوسّع الاستعماري؟ هل كانت هناك وضعية حضارية أهلية فلسطينية قبل وخلال الانتداب البريطاني؟ ماذا تعلِّمنا رواية حربي العامين 1948 و1967؟
في هذا المقرر سيكون التركيز على الرواية التاريخية بوصفها عيناً على واقع تجربة التاريخ السياسي الحية. وسيدرس الطلبة بالإضافة إلى ذلك أعمالا غير روائية لإيضاح طبيعة الفهم التاريخي المرن.
ولدى غوردون، الروائي والأكاديمي، ما يقوله في سياق الكتابة والرواية والتقاطع بين ما يسميه الأخلاق والسياسة والجريمة في دروس أخرى، مثل الدرس الذي سبق وأن قرره على الطلبة في خريف العام 2015، وكان تحت اسم "تقديم الرواية". فتحت هذا العنوان أقام "ورشة" درس فيها الطلبة ومارسوا فن حكاية القصة، مع التركيز على الأدوار التي يؤديها صوت الحكواتي وبنيتها وسماتها في النوع الأدبي موضوع البحث.
وقرأ الطلبة خلال ذلك أنواعاً روائية مختلفة، وأنواعاً فرعية، وأساليب الجريمة والقصة البوليسية والعلمية والواقعية والواقعية النفسية والخرافية وقصص الفكاهة السوداء وحكايات الـتأمل الذاتي، والرواية القوطية كمثال. مع التفاتة خاصة إلى استكشاف العلاقة بين مقاصد المؤلف وتوقعات القارئ، وكيف يمكن التنبؤ بالمقاصد والتوقعات.
في ربيع العام 2016 أيضاً، سيقرر غوردون على طلبته موضوعاً عنوانه "كتابة الآخر وقراءته". وسيستخدم هنا أعمال الكاتب و.ج. سيبالد كمفاتيح الهدف منها تقديم تحليل عياني لقضية تحدّي كتابة عرق الآخر، أو سياسته، أو جنسانيته.
وسيطرح المقرر السؤال عن كيفية فهم تجربة الآخر الذاتية، وبخاصة تجربته المعاشة، عن طريق ثلاثة أساليب كتابية: شهادة عيان صحافية، وصحافة التحقيق المطولة، والرواية. حيث يُستكشف تسجيل تجربة الآخر السياسية التاريخية والحية بوساطة حرية المخيلة وصرامتها بهدف إضاءة وجهة نظر الآخر.
---
وجه آخر لا نعرفه
لم يقدّم للقارئ العربي حتى الآن أي عمل روائي لنيل غوردون، رغم موقعه في المشهد الروائي الأميركي، وحين نستعرض ما يترجم من الروايات الغربية والأميركية خاصة، سنفاجأ بأن الأسماء ما زالت هي ذاتها التي عرفها العرب في منتصف القرن العشرين وقبله. فلماذا لا يبحث المترجم خارج السياق المعتاد ليعرف القارئ الوجه الآخر الجديد؟ ليس على المستوى الفني فحسب وإنما على مستوى الخطاب السياسي أيضاً.
اقرأ أيضاً: جوزيف مسعد.. كشف استشراق الداخل