نوم داخل النوم

28 يونيو 2016
لوحة للفنان الفرنسي روبرت دولونيه (Getty)
+ الخط -
يوميًا كنت أستيقظ من النوم وأتعجب : "أي مغزى في أن لا أرى نفسي في الأحلام سوى نائمة في باص نقل أصفر للعمال؟. عمال لا أعرفهم ولا يعرفونني، لكنني أكون جالسة دائمًا في المقدمة، ملقية رأسي على كتف المقعد، وذاهبة في نوم عميق. قالت لي نزيهة: "تعالي نرى ابن سيرين". ضحكتُ، وبحثت هي. في الغد جاءت من بعيد تلوح لي بيدها وتتوقف أحيانًا لتضحك ثم تستأنف المشي والضحك معًا، عندما أصبحت بمواجهتي، لفّت يدها الطويلة والكبيرة حول كتفي. نزيهة ضخمة، طويلة وتمتلك ذراعي رجل قويّ. قرّبت من أذني فمها وقالت، تقطع كلماتها ضحكات فرحة، ذلك النوع من الفرح الذي ينطوي على الكثير من الغضب: "إنه يقول لكِ إنك غافلة، النوم في الأحلام غفلة عن شخص يخونك". كان سامي واقفًا في الطابق الثاني، عند أعلى السلالم الحجرية، يضع يدًا على الدرابزين الحديدي ويمسك سيجارة باليد الأخرى. رفعت رأسها باتجاهه وغمزتني: "على أية حال ربع الحكمة الفطنة، وثلاثة أرباعها التغافل، نامي حبيبتي نامي". ابتعدت وهي تبربر بكلمات كثيرة لم أميّزها بعدما انقلب مزاجها فجأة الى النقيض، لكني سمعت "الكلب" فقط. بعد شهور اكتشفت أنه طيلة عام كانت تجمعه بهزار علاقة غرامية طويلة وعريضة، يخفيانها عني بما أنها متزوجة. تألمت لما تخيلتني فجأة حماراً بأذنين طويلتين جدًا لا أراهما، بينما يراهما غيري، أمشي بزهو وورائي من يسخر مني. تألمت حسنًا لكني تخلصت على الأقل من حلم النوم في الباص الذي كنت أراه يوميًا.

منذ ذلك اليوم نشأت بيني وبين الأحلام علاقة تراوح بين الصعود والنزول، الشدّ والجذب، لكنها في العموم كانت متوترة. صرت أتوجس منها كثيرًا وكانت تجعلني رغمًا عني، أهلوس بأشياء قد لا يكون لها من الصحة مكان. حتى صرخت بي مرة نزيهة "هل تظنين نفسك نبية؟ ليست كل المنامات رؤى، ثمة أضغاث أحلام". قلت في نفسي هذه التي تتكلم هي ذاتها من زرعت في نفسي الإيمان بكل ما أراه في نومي وأخذه على محمل الجدية البالغة منذ ذلك الصباح البعيد، منذ أعوام طويلة عندما كنا زميلتين في مكان عمل واحد. الآن غيرت موقفها. طبعًا لن تدرك كم من الشاق عليّ الآن، تغيير موقفي. صمتُ، لم أجبها، لكنني عندما أنهض كل صباح، صار من عادتي، البحث عن تفسيرات ابن سيرين لهذا الشيء أو ذاك.
يستيقظ إبراهيم بمزاج مقلوب، اليوم. ليس من عادات زوجي أن يكون منزعجًا عند استيقاظه. ألاحظ ذلك من بعيد، لا أسأله، أواصل وضع الصحون على طاولة الأكل، الكؤوس، وإبريقي الحليب والقهوة. يستعد الأطفال للذهاب إلى المدرسة، وإبراهيم يقف مواجهًا لي في غرفة الحمام يحلق ذقنه. أجلس في النهاية وأبدأ بمناداتهم، نداء الصباح اليومي: "هيا إلى الفطور، سيفوتكم الوقت". يحتاج أولادي كل يوم ربع ساعة أخرى على الأقل، ليتحلقوا حول الطاولة. لكن إبراهيم غسل وجهه، مسحه وترك المنشفة بين يديه ثم اقترب من الطاولة ساهمًا. جذب كرسيه المحاذي لي وجلس، ظلّ مطأطأً رأسه ينظر ساهمًا إلى الصحن أمامه، نظرة فارغة كأنه لا يرى شيئًا. أنزل رأسي لأنظر في عينيه : "إبراهيم ما بك اليوم؟". "ثمة شيء يحيرني لا أفهمه". يواصل : "حلم، حلم يتكرر معي بشكل يومي. أرى نفسي كل ليلة نائماً في سيارة لا أعرفها أو حافلة أو أي مركبة، لا أعرف، المهم أن المركبة تمشي وأنا أغط في نوم عميق". كلامه جعلني أشعر برجّة في رأسي، وضربة أعلى من العادي في قلبي، تذكرت حلم الباص الأصفر القديم، وبدأت أقول له إنها مجرد أضغاث أحلام لا يجب أن تكدّره، انهمكت في صبّ الحليب للأطفال وعمل شرائح الزبدة لهم، ولم أقل لإبراهيم "تعال نرى ابن سيرين".

خرجوا جميعًا وبقيتُ وحيدة في البيت، أدور داخل حيرتي، من الذي يخون إبراهيم؟ أنا؟ حتماً لا. ولكن ما كان يستبدّ بي حقًا فكرة أن يحاول بالفعل البحث عن تفسير لحلم النوم داخل المركبة التي تسير. ركضت إلى اللابتوب وفتحته، الغريب أنني اكتشفت في تلك اللحظة، أنني لم أبحث قط عن معنى النوم في المنام، وأن المرة الوحيدة تلك، فعلتها نزيهة - ليتها لم تفعل - أبحث إذن في موقع ابن سيرين لتفسير الأحلام عن معنى النوم داخل النوم، واتضح أن التفسير لم يتبدل، إنه الغفلة عن الخيانة.
يا إبراهيم لم أخنك، أنا أساسًا لا أخون، لا أقدر، سأكره نفسي، وكراهية النفس مع شخص مهزوز مثلي هي الجحيم بعينه. جحيم قادر، وحياة أولادنا، أن يقودني إلى الجنون. أنا أضعف من أن أخونك، ربما هذا هو السبب الكبير، عدا ذلك أنا لم أتزوجك عن حب ولا حتى أنت تزوجتني عن حب، لكننا قبلنا بقدر كلينا المناسب من صفات للآخر، واتفقنا. ها نحن نعيش منذ عشرة أعوام في محبة وسلام، ما الذي أقحم المركبة المشؤومة في أحلامك، ثم كيف تنام فيها؟ كان عليك أن تكون صاحياً، لأني ببساطة لا أخونك.

لا أخونك أقولها بصوت مسموع، ويدي بلا شعور تغلق الحاسوب أمامي. لا أخونك وأتفكّر. يأخذني التفكير إلى الذين يعتبرون أن التفكير في شخص آخر، يُعدّ خيانة أيضًا وأُسقط في يدي!

جاء إبراهيم في الوقت الخطأ، منذ عشرة أعوام، لم أكن قد تخلصت من حبّ سامي بعد. السافل خانني طيلة عام كامل، ولم أكرهه، بقيت أحبه، بالكاد عاتبته ولم أجرؤ على تركه. أيام خطبتي لإبراهيم كنت أقابله، حقيقة مؤسفة أعرف ولا تليق بإنسانة صادقة مثلي، ولكني وللحق فعلتها. ستقول لي الآن إذا كنتِ تحبينه كل هذا الحبّ، فلماذا لم ترتبطي به وارتبطي برجل آخر؟ سأقول لك ببساطة، لأن الوغد قال إنه لا ينوي الارتباط الآن، وليس مستعدًا له. ثم لأن إبراهيم كان رجلًا جاهزاً، فضلًا عن صفات جيدة كثيرة وجدتها فيه، رجل متزن ومخلص وكريم وقوي. إلا أن النساء غالبًا يحببن الأوغاد، وجيد على الأقل أنهن أحيانًا يفهمن ذلك، فيتزوجن من النبلاء، الرجال الحقيقيين. العقل زينة تقول أمي، كنتُ عاقلة وتزوجت إبراهيم. ولكني لم أنقطع عن التفكير في سامي، تصل بي الحال أحيانًا حدّ البكاء، هذا في السنوات الأولى فقط، بعدها نسيته، نسيته تمامًا، حتى اعترضني قبل شهر، لعن الله المصادفات السيئة!
عاد بي فجأة كل شيء إلى الوراء. كانت دقائق قصيرة، سألني فيها عمّا فعلته بي الحياة. قلت له إني تزوجت وصرت أمّاً لطفلين. سألني فجأة هل أنا سعيدة؟ وبأتوماتكية لا تخلو من ارتباك قلت له نعم. ابتسم لي خلف نظرته الخبيثة - عليّ أن أقول الجذابة أيضًا - التي أعرفها تمامًا. وقال "جميل.. أنا لم أتزوج بعد، ولكني سعيد أيضًا مثلك". حييته وانصرفت مسرعة. كنت أعرف أن مزيدًا من الكلام معه، سيفتح علي أبوابًا بمشقة أغلقتها واستغرقت مني سنوات عديدة، ولكن ذلك لم يمنع شعوري بحزن غريب يغلف قلبي طوال الطريق إلى البيت، وكلمة ترنّ في أذني: "نعم أنا سعيدة".
الجلوس على الكنبة والسرحان في الماضي البعيد، الإحساس بالحزن وربما الندم "أنا تسرعت أيضًا، وارتبطت برجل آخر، لماذا لم أنتظره وقد كنت أحبه كل ذلك الحبّ؟". كنت أقول لصديقاتي إني لا أبحث عن شيء في الزواج سوى الحبّ، وما لم أحب رجلًا حبًا عظيمًا، فسيكون عاديًا بالنسبة لي ألا أتزوج أبدًا. ما الذي حدث؟ جاء الحب العظيم، ولكني بعته مقابل الاستقرار والحياة الأفضل. ولكن الآخر بدوره لم يكن يستحق التضحية، مثّل الحزن ونحن نفترق ولم ينجح. أمكنني رؤية أنفاس الصعداء وهي ترفع صدره وتُخفضه. ارتاح، نعم ارتاح، بل أكثر من ذلك، كنتُ أشعر أنه فرِح.

لاطمتني الأفكار طيلة أيام، ومنعت عني النوم طيلة ليالٍ، وأحيانًا كان يتدفق في رأسي سيل من الصور والذكريات البعيدة، عبثًا حاولت إبعادها. هل هذه خيانة يا إبراهيم؟ قالت لي نزيهة من جديد وهي تفكّ حجابها بتوتّر عن رأسها "طبعًا خيانة يا مدام". وراحت تتحسر على غباء النساء، وهي بالطبع تعنيني، تتلفت حولها بحركة عصبية خلال كلامها كمن يفتش عن شيء ضائع وتسألني باستنكار عما ينقصني، وقد منحني الله زوجًا كزوجي وأنقذني من جحيم آخر، تضرب كفًا بكفّ وتكزّ على أسنانها وتقول بصوت خافت محدثة نفسها "الكلب".

إبراهيم ما يزال ينام في المركبة، وأنا ما أزال أدعو الله كل يوم ألا يدعوه أحد أصدقائه ليرى ابن سيرين. ما زلت واقفة خلف أبواب الذاكرة، باذلة أقصى جهودي البدنية والنفسية، ألا تشرّعها عواصف الماضي. مرةً، كان مسترخيًا بعد يوم عمل شاق، على كنبة غرفة المعيشة. وقال لي "ألا تفهمين في تفسير الأحلام؟". قلت من دون أن أرفع عينيّ إليه: "لا". سكتنا، لكنه في اليوم التالي جاء مهتاجًا وغاضبًا، بعدما اكتشف أن شريكه كان يخفي عليه بعض العمليات التجارية التي تُستلم باسم الشركة. وفي الحقيقة كان يعمل عليها في الخفاء ويستفيد منها لحساب نفسه. لأول مرّة أرى إبراهيم منهارًا إلى ذلك الحدّ، تألم لأن من كان يخونه ليس مجرد شريك تجارة فقط، بل ابن عمه وصديق عمره.

جلست بجواره واحتضنته. رأيت لمعة دموع في عينيه وكان وجهه محمرّاً، لا أدري من الغضب أو الخجل من نفسه على ثقته العمياء بالناس. كنت من قلبي متألمة بسبب ألمه، ولم أجد ما أواسيه به سوى أن قلتُ له: "لقد تخلّصت على الأقل من حلم النوم في المركبة الذي كنت تراه يوميًا". لا يفهم شيئًا، أهبّ واقفة وأسحبه من يده بقوة غير حافلة بالدهشة التي ارتسمت فوق وجهه، أمام طاولة الكمبيوتر أقول له بارتياح من خلال ضحكة عريضة: "تعال نرى ابن سيرين".



دلالات
المساهمون