افتتاحُ مكتبة لبيع الكتب كان سيكون أمراً عادياً ومألوفاً، لولا أن أحداً لم يعد يفكّر في القيام بذلك. حتّى المكتبات التي كانت تملأ عدداً من المدن الجزائرية، في سنوات خلت، أُغلقت أو تحوّلت إلى مطاعم للوجبات السريعة.
في مدينة سطيف، شرقَي الجزائر، لا يختلف الأمرُ كثيراً. لذلك، كان افتتاح مكتبة تحمل اسم "المفكّرين الأحرار"، مؤخّراً، مثيراً للانتباه، خصوصاً أنها اقترحت رؤيةً مغايرة للتجاري السائد؛ حيث خُصّصت لبيع وشراء الكتب الفكرية والأدبية المستعمَلة.
في حديثه إلى "العربي الجديد"، يقول صاحب المكتبة، وهو مغنّي راب يُدعى نوفل بوقصّة (1994) إن فكرة فتح مكتبة خاصّة بالكتب المعرفية راودته بعد أن اطّلع على واقع غياب هذه المجالات عن معظم المكتبات التي كان يزورها بحثاً عن عناوين تهمّه، لصالح الكتب التجارية: "كثيراً ما كنتُ أصطدم بحقيقة غياب الكتب الفكرية والأدبية والعلمية عن مكتباتنا التي يفضّل كثيرٌ منها الإصدارات التي تهتمّ بالدين والطبخ، التي يبدو أنها الأكثرُ رواجاً ومبيعاً، ومن ثمّ الأكثر تحقيقاً للربح، بينما لا وجود تقريباً للإصدارات التي تخاطب العقل وتعمل على الإسهام في ثقافة المجتمع ووعيه".
هكذا، قرّر بوقصّة الانطلاق في تجسيد فكرته، فانتهى إلى فتح مكتبة تضمُّ عناوين قرأها أو سمع عنها: "للأسف، كثيرٌ من المكتبات تخلّت عن دورها الثقافي واكتفت بالجانب التجاري، لذلك أردتُها مكتبةً مختلفة، تحمل في رفوفها كتباً قرأتها في نسخها الورقية أو الإلكترونية، أو قرأتُ عنها. كثيرٌ منها هي كتبٌ قدية، وبعضها أصبح نادراً وغير متوفّر في الفضاءات الخاصّة ببيع الكتاب. كان خياري منصبّاً على الكتب التي تقدّم قيمةً فكرية وجماليةً مضافةً، وهدفي أن تصل إلى الشباب، أملاً في أن تمدّ لهم جسوراً نحو القراءة والمعرفة، وتُسهم في خلق قرّاء إيجابيين ونقديين يثيرون الأسئلة، ولا يكتفون بالاستهلاك وترديد المقولات الجاهزة".
فتحُ مكتبة، مهما كانت صغيرة، ليس أمراً هيناً، بالنظر إلى العقبات التي تواجه هكذا مشروع، أقلّها تلك المتعلّقة بجانبه اللوجيستي؛ بدءاً باقتناء الكتب ووصولاً إلى استئجار فضاء في مدينة تشهد فيها أسعار العقّارات ارتفاعاً مذهلاً. فكيف استطاع الشاب العشريني تجسيد مشروعه؟ يجيب: "اعتمدتُ، في البداية، على ما ادّخرتُه من مالٍ جمعتُه من أعمال حرّة، ثمّ أتى الدافع الكبير من أبي الذي أُعجب بالفكرة ودعمها بقوّة، كما لقيتُ دعماً معنوياً كبيراً من أصدقاء كثير آمنوا بالفكرة أيضاً".
خصّص بوقصّة المكتبة لبيع وشراء الكتب المستعمَلة، فلماذا الكتب المستعمَلة دون سواها؟ يجيب: "نحرص على توفير العناوين ذات القيمة المعرفية والأدبية، وهو ما لا يتوفّر في كثير من العناوين التي تصدر اليوم، والتي لا تحمل أيّة قيمة تُذكر، فضلاً عن أن بعضها يمرّ عبر الرقابة بمختلف أشكالها. لكن ذلك لا يعني أننا ضدّ الكتب الجديدة. بالعكس، الكتاب الجديد والنوعي سيكون حاضراً أيضاً".
عن تسمية "المفكّرين الأحرار"، التي اختارها للمكتبة، يقول: "إنه، في الأصل اسم مجموعة على فسبوك كنّا نتبادل، من خلالها أفكارنا وتجاربنا ورؤانا حول كثير من القضايا المعرفية. عرّفتني المجموعة إلى عددٍ من الأصدقاء الذين حبّبوا إليّ عادة القراءة، وجعلوني مؤمناً أكثر من أي وقت مضى بقيم المحبّة والتسامح وقبول الآخر. لذلك، فكّرت في أن إطلاق هذ الاسم على المكتبة سيكون نوعاً من العرفان وردّ الجميل إلى كلّ هؤلاء. أيضاً، أريد أن أقول، عبر هذه التسمية، إنني لا أريدها مجرّد فضاء لبيع الكتب، وإنما شمعةً تضيء المشهد الثقافي".
إذن، هل يفكّر صاحب المكتبة في أن يجعل منها فضاءً ثقافياً، يحتضن نشاطات فكرية وأدبية بشكل منتظم، خصوصاً في ظلّ غياب الفضاءات الثقافية في مدينة سطيف؟ يقول بوقصّة ردّاً على هذا السؤال إن "لا أُخفي رغبتي في ذلك، لكن أيّة خطوة في هذا السياق تتطلّب ترخيصاً قانونياً، وأنا لا أرغب في ممارسة أيّ نشاط قد يُعتبر غير قانوني. لذلك، فإن الأولوية في هذه المرحلة هو ترسيخ وجود المكتبة والتعريف بها وبرؤيتها التي تتمثّل في الإسهام في التأسيس لمجتمع معرفي يتبنّى قيم الحرية والثقافة واحترام الآخر، وينبذ كلّ أشكال التطرّف والتعصّب والفكر الظلامي".
هنا، يتحدّث بوقصّة عن الترحيب الكبير الذي لقيه من كتّاب وصحافيين جزائريين الذين رأى كثيرٌ منهم أن مجرّد فتح مكتبة هو بمثابة "ثورة رمزية على الجهل والتخلّف".