في السنة الجارية، أصدر الأكاديمي التونسي المتخصّص في علم النفس، نور الدين كريديس (1955)، عملين سرديين؛ رواية "الرحيل" ومجموعة قصصية بعنوان "آخر طائرة إلى تونس" (منشورات "نحن"، 2018).
الكتابان هما أوّل عملين أدبيّين يصدران له، بعد سلسلة من المؤلفات البحثية مثل "التواصل والتربية.. انطلاقاً من لويس كارول" (1984)، و"فيتاميات المعنى" (1992)، و"بسيكولوجيا الفنان الخالق" (2010) و"أن نفكر في الثورة" (2012).
يمكن أن نلاحظ أيضاً أنه وهو ينتقل من الأعمال البحثية إلى الإبداعية قد انتقل كذلك من لغة إلى أخرى حيث أصدر عمليه السرديين بالعربية فيما صدرت جميع مؤلفاته الأخرى بالفرنسية.
عن انتقاله مع عمليه الجديدين، من موقع مؤلف-باحث في مجال علم النفس إلى كاتب نص أدبي، يقول كريديس في حديث إلى "العربي الجديد": "حين أفكر في هذه المسألة أجدني أعود إلى سؤال: كيف تنشأ الرغبة في الكتابة؟ وهذا يعيدني إلى سنوات النشأة، حين كنت أجد في الكتابة متنفساً، أمام حالتي الشعور بالظلم والشعور بالحرمان. كانت القصة القصيرة وقتها هي الشكل الأدبي الأكثر تناسباً مع روح الشباب ومع إمكانية ردة فعل سريعة".
يشير كريديس إلى أن قصته الأولى كانت بعنوان "حكاية كل يوم". يقول: "بعد مرور خمسين عاماً، وجدت أنها لم تفقد شيئاً من يناعتها وقوّة نقدها للواقع ورفضها له". ويتابع: "لعل هذه القصة القصيرة، والتي تروي حكاية شاب عاطل عن العمل وما يدور في نفسه من شكوك ويأس وأمل، ما زالت تروي نفس الواقع... "حكاية كل يوم" هي نفس الحكاية منذ خمسين سنة. وهذا يعطي فكرة عن مدى نجاح المجتمع أو فشله ككل في مواجهة هذه الظاهرة. وهي تجد صدى لها في رواية "الرحيل" كعمل طويل (يعود مشروع كتابتها إلى 1981)، إذ تدور كل أحداث هذه الرواية حول "رحيل" عائلة عن مدينة حكمت على الأب بالبطالة".
من عوالم تلك الفترة يذكر الكاتب التونسي مؤثرات منها نجيب محفوظ الذي امتدّ تأثيره أبعد من القراءات حيث أن كريديس اقتبس مساره بشكل ما من مشوار صاحب "الحرافيش"، يقول: "علِمتُ أنه درَس الفلسفة قبل أن يختار الوظيفة الإدارية ليتفرّغ تماماً للكتابة. وليس بعيداً عن هذا التوجّه وهذا المسار، كنت مقتنعاً في تلك الفترة بأنه لا بد من العلوم الإنسانية والاجتماعية وخصوصاً علم النفس لتزداد كتاباتي عمقاً وقدرة على فهم الواقع والإنسان، وفي ذلك ما يفسّر اختياري الفلسفة في مرحلة أولى ثم علم النفس كدراسة جامعية".
ويكمل "لكن ما لم أخطط له هو بقائي في البحث والتدريس كل هذه السنين، بعيداً عن شغفي الأصلي.. وعلمتُ في ما بعد أن الأدب لا يقوّي بالعلم، بل العكس هو الأصح. ولعل ذلك هو ما اكتشفته بعد طول سنين الدراسة والبحث والتدريس".
يعتبر كريديس أن "الرابطة بين الأدب والبحث العلمي، وهما حقلان أساسيان من حقول الإبداع البشري، قد بدأت تتفكّك تحت ضغط التخصّص المفرط الذي تفرضه الجامعة إلى أن أصبحت هناك عند البعض قطيعة بين الأدب والعلم والحال أن كثيراً من العلم موجود في الأدب والشعر والمسرح".
يتابع: "انظر إلى كتب فرويد ستجد كيف تستلهم من التراث اليوناني. ونرى كيف أن المفكر الفرنسي ميشيل سير Michel Serres يفكك الأدب والعلم بنفس الشبكة والمفاهيم، وأن عالماً في الأعصاب مثل أنطونيو دمازيو Antonio Damasio يطبّق فلسفة سبينوزا وديكارت ليفنّد نظرية العمل الدماغي والعصبي بدون ركيزة دافعية وانفعالية وشعورية، أي أنه يعود إلى وقود الأدب والفن وهو الشعور والانفعال".
بالعودة إلى مسيرته، يقول محدّثنا: "إذن يمكن القول إن دخولي إلى العلوم الإنسانية كان بمثابة فتح قوسين حتى تتكوّن لي ركيزة لفهم الذات البشرية والواقع الإنساني وحتى أعود إلى غرامي الأول مسلّحاً بهذه الأدوات. ولكن لا شيء من هذا حدث، هكذا فإن النصوص التي كُتبت في النصف الأول من الثمانينيات لم تنشر إلا بعد أكثر من ثلاثة عقود".
وحول خيار الكتابة بالعربية حين يكون متعلقاً بالإبداع، والفرنسية في الأعمال البحثية، يقول: "لقد درست العلوم الإنسانية ودرّستها باللغة الفرنسية. ولكنني كتبت الأدب منذ البداية بالعربية ولما عدت إليه، عدت إليه بنفس تلك العلاقة مع تلك اللغة وكأنني لم أفارقها، ليس لأنها لغة أدب وليس لأن الفرنسية لغة علم، بل لأن الكتابة تختار لغتها منذ البداية ومعها مجموعة المفاتيح والمتاهات والألغاز والمبهمات".
يضيف قائلاً: "لغتي نافذة على الشخصيات وعلى الزمان والمكان. لذلك لما تقرأ "الرحيل" تقرأ كتاباً عن فترة زمنية وعن مكان. ولكن أيضاً عن لغة ذلك الزمان وذلك المكان.. فيها اعتبارٌ للعامية التونسية، لغة اليومي، وهي اللغة التي نشتمّ منها رائحة المطر وعودة الغائب ولعب الأطفال".
يُذكر أن خيار الكتابة الإبداعية بالعربية سيتواصل في إصدارات قادمة، حيث يشير كريديس إلى أن عمله القادم سيكون بالعربية، وهو رواية بعنوان "فراق"، فيما سيصدر بالفرنسية عملاً بحثياً جديداً بعنوان "الثورة محكيّةً".