10 نوفمبر 2024
نوبل السلام ونوبل الأخلاق
كلما اقترب موعد منح جائزة نوبل للسلام، تهافتت الأقلام، خصوصاً في المنطقة العربية، لتضفي على الجائزة و"ملابساتها" نفحةً من ثقافة المؤامرة المتجذّرة في المحاكمات الذهنية لشريحةٍ لا بأس بها من مثقفي العرب، ومن في حكمهم. وسرعان ما تبدأ التحليلات والتفسيرات بربط منح الجائزة إلى هذا أو ذاك من الناس أو من الهيئات، بدرجة "ولائهم" أو "ارتباطهم" بمخطط شيطاني كوني، لا على التعيين. أو يُظهر المشككون بعداً لا سامياً في تعليقاتهم، بأن يعزوا منح الجائزة إلى تأثير "لوبي يهودي" يعبث بالساحة الدولية. وبالتأكيد، وبانفصام أخلاقي ملفت، لن يغفل هؤلاء ذاتهم عن الإشادة بالجائزة، إن هي وقعت على أحد ممن يؤمنون بهم وبرسالتهم وبدورهم، كما حصل حين منحت سنة 2015 إلى الرباعي التونسي (الاتحاد العام التونسي للشغل، الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، الاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية، والهيئة الوطنية للمحامين التونسيين)، والذي ساهم في تنشيط الحوار الوطني (2013 ـ 2014)، ودفع إلى الوصول إلى حلول وسط في المشهد السياسي التونسي شديد الاستقطاب. حينذاك، أجمع على المباركة والإشادة كل المشكّكين عادة من أصحاب الشعارات القومية، عالية النبرة وفارغة المضمون، كما اليساريون البافلوفيون، دعاة تخوين كل الثورات التي لم تعبر عن طريق صراع الطبقات الحقيقي أو المتخيل، والذين يرون في كل حَراكٍ وطنيٍّ مؤامرة نفطية. وفي المحصلة، نوبل للسلام، كما نوبل في المجالات المختلفة الأخرى، جائزة مهمة لها معاييرها الدقيقة، والتي لا تخلو من السياسة، كما كل شيء حي وجامد على هذه الأرض.
في المقابل، منح الجائزة لشخص أو جهة لا يعني ألبتة بأن من يحصل عليها صار قدّيساً لا
تجوز مساءلته أو محاسبته أو إدانته إن لزم. كما حال أونغ سان سو شي البورمانية، والتي حصلت على الجائزة سنة 1991. "سيدة رانغون" كما لقبها، كانت في إقامةٍ جبريةٍ امتدت أكثر من 15 عاماً فرضها عليها العسكر الذين صالوا وجالوا في البلاد والعقود. وقد ذكر كتاب سيرتها "السيدة والجنرالات" أنها عبّرت عن موقف عنصري متطرّف عندما ثارت لوجود صحفيٍ دينه الإسلام من محطة بي بي سي لمحاورتها، وقالت: "لم يذكر لي أحد أن مسلما سيستجوبني". جرت تلك الحادثة ذات الدلالة العنصرية في أكتوبر/ تشرين الأول من سنة 2013. وما أثار حنقها حينذاك إصرار الصحفي على محاولة استدراجها إلى الإجابة بصراحة عن موقفها من قتل آلاف المسلمين البورمانيين ومن أقلية "الروهينغا" وتشريدهم في بلدها ذي الأكثرية البوذية. وقد ادّعت أن العنف طاول جميع الأطراف، ورفضت الاعتراف بأن هذه الأقلية كانت عرضةً لأي انتهاك موجّه. وبإجماع المراقبين، يبدو أن السيدة الفائزة بجائزة نوبل للسلام أظهرت خبايا التمييز الذي في باطنها أو الخوف من عودة الجنرالات الذين تنازلوا بعض الشيء عن سطوتهم في بلدها الذي عانى طويلا من استبدادهم. في المقابل، وعبر بيان علني في ديسمبر/ كانون الأول 2016، طلب حائزون على الجائزة من الأمين العام للأمم المتحدة أن يهتم بملف المذابح بحق الروهينغا، مندّدين "بالمأساة الإنسانية التي تعتبر تطهيرا عرقيا وجريمة ضد الانسانية". وبالتأكيد، لم تكن سو شي من الموقعين على البيان، فهي ما زالت مقيدة اليدين، على الرغم من وجودها في الحكم، من الجيش الذي يتصرّف كما يحلو له، من دون أية سلطة حكومية واضحة عليه. كانت "أيقونة" للنضال السلمي ضد الاستبداد، ورمزاً كونياً للمدافعين عن حقوق الإنسان والديمقراطية، وصارت سياسية مشاركة للمستبد السابق في الحكم عبر توافقات.
لا تعفي جائزة نوبل للسلام حاملها من المساءلة الأخلاقية، خصوصاً إن تحوّل عن مبادئها،
ومارس الصمت إزاء الانتهاكات الموصوفة والموثّقة لحقوق الإنسان. فكيف إذا ساند حاملها أنظمة قمعيةً، ما فتئت تمارس العنف تجاه المناضلين السلميين منذ عقود، وتزجّهم في المعتقلات أو تدفعهم إلى الهجرة واللجوء؟ كيف إذا أرسل حائزها وفوداً تضامنية لتنقل "أسمى آيات" النفاق، بحجج بافلوفية متكرّرة وممجوجة، ترتكز على "معاداة الإمبريالية والمشروع الصهيوني". فكل إمبرياليات العالم، كما جُلّ صهاينته، لم يوفقوا حتى اليوم في تدمير شعب أراد يوماً حريته، كما أوضحت أحداث القدس أخيرا، لكن أنظمته استطاعت، وبدعم معنوي من هذه "العراضات" الأيديولوجية، أن تقتل منه مئات الآلاف، وتهجّر الملايين.
صمتت الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان طوال سنوات المقتلة السورية دهراً، لتنطق كفراً وتتهم في بيانها يوم 24 يوليو/ تموز الجاري من صوّت ضد قرار إعادة العلاقات مع النظام السوري في برلمان بلدها بـ "فقدان الوطنية". وصمت الاتحاد العام التونسي للشغل عن عقودٍ من الاستبداد، وتدجين العمل النقابي في الشقيقة سورية وأمننته، ليصحو فجأة على ضرورة إعادة العلاقات الدبلوماسية، ويرسل وفداً تضامنياً بحجج واهية. أي انسجامٍ هذا مع الضمير النقابي والعمل الحقوقي؟ هل الأيديولوجيا اليساروية/ القومجية/ البافلوفية المصابة برهاب الإسلام الدافع الوحيد؟
ربما على "نوبل للسلام" أن تضع قواعد جديدة تسمح لها بتجريد من يخون مبادئها من الجائزة بحيث يكون عرضة للمساءلة الأخلاقية على الأقل.
في المقابل، منح الجائزة لشخص أو جهة لا يعني ألبتة بأن من يحصل عليها صار قدّيساً لا
لا تعفي جائزة نوبل للسلام حاملها من المساءلة الأخلاقية، خصوصاً إن تحوّل عن مبادئها،
صمتت الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان طوال سنوات المقتلة السورية دهراً، لتنطق كفراً وتتهم في بيانها يوم 24 يوليو/ تموز الجاري من صوّت ضد قرار إعادة العلاقات مع النظام السوري في برلمان بلدها بـ "فقدان الوطنية". وصمت الاتحاد العام التونسي للشغل عن عقودٍ من الاستبداد، وتدجين العمل النقابي في الشقيقة سورية وأمننته، ليصحو فجأة على ضرورة إعادة العلاقات الدبلوماسية، ويرسل وفداً تضامنياً بحجج واهية. أي انسجامٍ هذا مع الضمير النقابي والعمل الحقوقي؟ هل الأيديولوجيا اليساروية/ القومجية/ البافلوفية المصابة برهاب الإسلام الدافع الوحيد؟
ربما على "نوبل للسلام" أن تضع قواعد جديدة تسمح لها بتجريد من يخون مبادئها من الجائزة بحيث يكون عرضة للمساءلة الأخلاقية على الأقل.