نهاية زمن أوسلو.. بداية زمن جديد
تؤكد التصريحات والوقائع الإسرائيلية والفلسطينية نهاية زمن اتفاق أوسلو، وبدء البحث عن زمن بديل، أو جديد خاص بكل من طرفيه، الفلسطيني والإسرائيلي، في انتظار التوصل إلى اتفاق جديد، فرضاً وانتزاعاً، أو قبولاً واتفاقاً، حسب ما تفرضه التوازنات القائمة، أو تلك القادمة في المدى المنظور، فقد سعت إسرائيل، مبكراً، إلى التحلل من الالتزامات التي يفرضها اتفاق أوسلو، ومصادرة أي إمكانية لتطويره، أو البناء عليه، بما يمكن الفلسطينيين من تجاوزه نحو اتفاقٍ، ينهي الاحتلال، ويقود إلى بناء دولة مستقلة، فكان اغتيال رئيس الوزراء الإسرائيلي، إسحق رابين، في تل أبيب في 4 نوفمبر/ تشرين الثاني 1995 عقاباً له على توقيعه الاتفاق (قد تكشف الأيام أن اغتياله كان بقرار من هيئات قيادية عليا في إسرائيل). وكانت بعده، وبعد إلغاء بنود في الميثاق الوطني وتعديله، الاعتداءات الإسرائيلية المتمادية على بنى السلطة الفلسطينية وهيئاتها، في قطاع غزة أولاً، ثم في الضفة الغربية، وصولاً إلى محاصرة الرئيس الفلسطيني الراحل، ياسر عرفات، وموته مسموماً (بفعل إسرائيلي على الأرجح) في 11 نوفمبر/ تشرين ثاني 2004، بعد أن فشل قادة إسرائيل في الحصول منه على تنازلات تنسف أسس ومقومات هدف الدولة المستقلة على كامل أراضي الضفة والقطاع، وعاصمتها القدس الشرقية. وبذلك، قتل قادة إسرائيل الشريكين، الإسرائيلي والفلسطيني، اللذين وقعا اتفاق أوسلو على أمل أن يكون مقدمة لسلام فلسطيني – إسرائيلي.
مع تسلم الرئيس محمود عباس مقاليد السلطة، والمعروف بأنه مهندس اتفاق أوسلو، ونبذه المبكر للعنف، وتحبيذه المقاومة الشعبية السلمية، امتنع قادة إسرائيل عن التقدم بأي خطوة لاستئناف العملية السلمية، وذهبوا إلى الأسوأ، عندما فرضوا الحصار على قطاع غزة، بعد سيطرة حركة حماس على مقاليد السلطة فيه، وعندما ارتكبوا العدوان تلو الآخر على القطاع، وشددوا إجراءاتهم الأمنية الزاجرة في الضفة، بما في ذلك طلب السلطة مزيداً من التنسيق والتعاون الأمني، وصعّدوا إجراءاتهم الهادفة إلى تهويد القدس والمسجد الأقصى والتوسع الاستيطاني، ورفض أي مقاربة فلسطينية، أو أميركية، تفضي إلى تهيئة الأجواء، من أجل استئناف المفاوضات، برعاية أميركية للوصول إلى اتفاق.
وتتعالى، حالياً، التصريحات الإسرائيلية الزاعمة أن عباس لم يعد شريكاً في السلام، وأنه مجرد شريك في إدارة الصراع، حسب توصيف وزير الحرب الإسرائيلي، موشيه يعالون، وأنه لا وجود لشريك فلسطيني في عملية السلام، وكأن تل أبيب تنغل بشركاء السلام وبمبادرات السلام مع الفلسطينيين! بينما تؤكد الوقائع أن قادة إسرائيل لم يقدموا، منذ توقيع اتفاق أوسلو، ما يمكن وصفه بمبادرة أو أفكار أو مقترحات لتفعيل العملية السلمية، بل عملوا عكس ذلك. وقد تساءل الرئيس الإسرائيلي السابق، شمعون بيريس، قبل أسابيع، "أين هي مبادرة السلام الإسرائيلية"، وفي الوقت نفسه، نفت الناطقة باسم الخارجية الأميركية وجود خطة سلام أميركية حالياً، وقالت إن العودة إلى المفاوضات تحتاج إلى شريك فعال، وليس هناك دليل على ذلك اليوم.
وليس مبالغةً القول إن الطرفين، الإسرائيلي والفلسطيني، يريدان التحرر من اتفاق أوسلو، فالجانب الإسرائيلي يتصرف وكأنه قد أعطى للفلسطيني كل ما يستطيعه في الضفة والقطاع، ولم يعد يرغب بإعطاء المزيد، وأن على الفلسطيني أن يتصرف في حدود ما حصل عليه ويقبل به، وأن يتنازل أكثر وأكثر، إن أراد الحصول على ما هو أكبر، أو أفضل قليلاً، وفي مقدمة ذلك التنازل عن حق العودة، والقبول ببعض القدس، والتسليم باستمرار وجود المستوطنات والمستوطنين، ووجود القوات الإسرائيلية في مرتفعات الضفة، ومعابرها الشرقية تحت السيطرة والسيادة الإسرائيلية، إضافة، طبعاً، إلى أجواء الضفة وباطن أرضها، وبعدها للفلسطيني الحق في أن يسمي ما يحصل عليه إمبراطورية، وليس فقط دولة فلسطينية، كما قال يعالون. وبسبب اقتناع قادة إسرائيل بذلك، فإنهم يضغطون بكامل أثقالهم على الإدارة الأميركية، للامتناع عن تقديم أي أفكار، أو مقترحات لتفعيل العملية السلمية.
في المقابل، يبدو واضحاً أن السلطة الفلسطينية بدأت تستعجل التحرر من زمن اتفاق أوسلو وأعبائه، وما يفرضه من قيود عليها، بما في ذلك عبء التنسيق الأمني المفروض مع إسرائيل بدون مقابل، وما يرتبه ذلك من أثقال سيئة على سمعتها وحركتها، وما يفرضه، أيضاً، من قيود لمنع انطلاق انتفاضة فلسطينية جديدة ضد ممارسات إسرائيل التهويدية والاستيطانية والإرهابية، في الضفة الغربية.
ولعل أبرز الأدلة على استعجال السلطة التحرر من "أوسلو" إصرارها على التوجه إلى مجلس الأمن، طلباً لقرار منه، يتيح إنهاء الاحتلال في فترة زمنية محددة، وقيام الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس الشرقية، مع التهديد بأنها، في حال فشلها في الحصول على هكذا قرار بسبب فيتو أميركي، ستباشر إجراءات الانضمام إلى اتفاقات وهيئات دولية، وفي مقدمتها المحكمة الجنائية الدولية. وهي تصر على المضي في توجهها هذا، على الرغم من التبرم الأميركي والمساعي التي تبذلها الإدارة الأميركية لثني السلطة عنه، أو تأجيله. فقد أصبح التوجه إلى مجلس الأمن والهيئات الدولية ضرورياً ولازماً، بعد ما انتهى إليه اتفاق أوسلو، وما آلت إليه الأوضاع في الأراضي الفلسطينية، ورفض إسرائيل المعلن لإنهاء احتلالها هذه الأراضي، وتمكين الشعب الفلسطيني من الاستقلال، وإقامة دولته عليها.
راهن الفلسطينيون منذ ما قبل التوقيع على اتفاق أوسلو على الإدارات الأميركية المتعاقبة، لكي تضغط على إسرائيل، من أجل إنهاء احتلالها الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967، إلا أن الإدارات الأميركية امتنعت عن ذلك، واستمرت، بدورها، حامية وداعمة وراعية لإسرائيل. ولم يبق أمام السلطة الفلسطينية، وهي تغادر زمن أوسلو، سوى البحث عن زمن جديد، يتمثل، راهناً، بالعودة إلى الهيئات الدولية المسؤولة عن نشأة القضية الفلسطينية برمتها، وديمومتها من دون حل، على الرغم من أكوام قرارات اتخذتها منذ عام 1947.
قد لا تنجح السلطة الفلسطينية في توجهها راهناً، لكنها إن ثابرت على ذلك في المدى القريب، واعتمدت سياسات أكثر جرأة في مواجهة السياسات الاحتلالية الإسرائيلية، مترافقة مع سياسات داخلية، أكثر رصانة وجدية، وحرصاً على الوحدة الوطنية، وإعادة تفعيل الحضور الفلسطيني، عربياً ودولياً، قد تحصد نتائج أفضل، وتهيئ لانطلاق زمن فلسطيني جديد، يتواءم مع المرحلة الجديدة التي تمر بها مجمل النضالات الفلسطينية، على مختلف الصعد.