13 نوفمبر 2024
نهاية حقوق الإنسان!
بدعوة من مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، حضرت مؤتمرا عقد نهاية الأسبوع الماضي في تونس، عن مستقبل حركة حقوق الإنسان أمام التحديات التي تواجهها في سياقات سياسية واجتماعية متنوعة ومعقدة، وفي عالمٍ مضطرب. وطوال يومين، تردّد أكثر من مرة السؤال، وبأكثر من صيغةٍ، بشأن الجدوى اليوم من الدفاع عن حقوق الإنسان في عالمٍ معادٍ لهذه الحقوق؟ وبقدر ما كان سؤال: هل نحن أمام نهاية حقوق الإنسان؟ الذي طرحه مدير المركز، بهي الدين حسن، مستفزّا، فإنه كان محفّزا للدفع بالنقاشات إلى أقصى مداها. فما كان يعتبر مكاسب في مجال الحقوق والحريات يجد اليوم المدافعون عن حقوق الإنسان أنفسهم مجبرين على إعادة النضال من جديد، ومن الصفر، لاستعادتها، والحفاظ عليها وصيانتها، أمام تنامي موجات الكراهية في العالم، وعودة العنصرية في أبشع صورها والعبودية بأشكالها الحديثة، وانعدام المساواة بكل أنواعها، واستفحال الظلم في كل بقاع العالم، وإفلات الجناة من العقاب، وتهرّب المذنبين من المحاسبة والمساءلة.
تتعرض حركة حقوق الإنسان العالمية اليوم لهجمة عنيفة، ومن أكثر من جهة معادية لها، وتجد نفسها مهدّدة أمام تنامي الحركات الشعوبية واليمين المتطرّف في الغرب، وبروز قادة عالميين شعبويين ويمينيين متطرّفين، يهدّدون بتقويض إنجازات الحركة الحقوقية في العالم. وصعود النزعة الانعزالية في الغرب بسبب تفاقم مشكلات مجتمعاتهم الاقتصادية والاجتماعية، والخوف من موجات الهجرة القادمة من الشرق أو الجنوب، والخطر الإرهابي. بالإضافة إلى سياسة الكيل بمكيالين التي تنهجها حكوماتٌ غربية كثيرة في تعاملها مع هذه الحقوق. أما التحدّيات التقليدية التي كانت تواجه هذه الحركة، أي القمع والتضييق، فقد ازدادت بقوة ودفعت مناضلين
إلى الاستسلام أو خفض سقف مطالبهم، ونجحت الحكومات المعادية لهذه الحقوق، في أكثر من بلد، في اختراق حركات حقوق الإنسان من الداخل في بلدانها، ما أفقدها كثيرا من مصداقيتها.
نحن أمام حالة انقلاب عالمي على حقوق الإنسان في العالم، لم يبدأ اليوم، وإنما قبل نحو 17 سنة، عندما ساهمت الحرب الدولية ضد الإرهاب، منذ إعلانها بعد أحداث "11سبتمبر" في العام 2001 في الولايات المتحدة في إضفاء الشرعية على كثير من تجاوزات حقوق الإنسان. فتحت ذريعة مكافحة الإرهاب، ارتكبت أنظمةٌ كثيرة، بما فيها حتى الديمقراطية، أعمال قتل وتعذيب وقمع وبلطجة خارج القانون، ولم تتعرّض لأية محاسبة حقيقية حتى اليوم. وحتى من داخل حركة حقوق الإنسان، أصبحت أسئلة كثيرة تُطرح، وتتطلب أجوبةً عميقةً وآنية لرفع التحدّيات الكبيرة التي تواجه مستقبل الحركة، من قبيل: هل الاكتفاء بحرفية القانون كفيل بالنهوض من جديد بهذه الحقوق، وتحقيق حتمية انتصارها النهائي؟ وهل يجب التعامل مع الفكر الحقوقي عقيدة معارضة، بدلاً من كونها مبادئ كونية مشتركة؟ وأين يتقاطع السياسي مع الأخلاقي مع المبادئ والقيم والقوانين؟
ليس من العيب أن تجد الحركة الحقوقية اليوم نفسها محشورةً في الزاوية، بسبب ضعفها والهجوم عليها، والاختراق الذي تعرّضت له، لكن المشكل هو الاستسلام للتشكيك في مشروع مجتمعها بعد مرور 70 سنة على الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. فما يشهده العالم اليوم من انقسام حاد حول مبادئ حقوق الإنسان، والطعن في صفائها الأخلاقي، وسمو مبادئها، وطابع الكونية التي أضفي عليها، يجد تفسيره في خلافاتٍ أخلاقيةٍ وسياسيةٍ أعمق تزكّيها إيديولوجيات سياسية ومعتقدات دينية تنظر بكثير من الشك إلى قيم حقوق الإنسان ومبادئها، كما تعارفت عليها الإنسانية في ميثاقها العالمي، وطورتها في معاهداتها ومواثيقها الدولية.
طبيعة أزمة حقوق الإنسان هي أيضا ذاتية، تتعلق بخطاب الحركة الحقوقية الذي لم يُساير
تطور المجتمعات، ولم يُواكب تطلعات الأجيال الجديدة من الحركات الاحتجاجية التي رفعت سقف المطالب عاليا، وليس فقط بسبب نكوص الديمقراطيات، وتغوّل الأنظمة الاستبدادية في زمن الثورات المضادة. وهنا يطرح السؤال بحدة على المشتغلين داخل حقل حقوق الإنسان: إلى أي حدٍّ ما زالت نظرية ثلاثة أجيال لحقوق الإنسان، أي الحقوق المدنية والسياسية، والحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، والحقوق الجماعية والفردية، تشكل الإطار الأنسب لتحليل حقوق الإنسان، وأيضا لمعالجة التطورات المعاصرة، والقدرة على تلبية حقوق التطوير والسلام والبيئة الصحية؟
ثمّة من يدفع في اتجاه تبنّي ادّعاءٍ كاذبٍ أن الأجيال الثلاثة الأولى من حقوق الإنسان أصبحت بالية، ولا فائدة من استمرار الدفاع عنها، وهو ادّعاء الهدف منه تقويض العقيدة الأساسية التي قامت عليها فلسفة حقوق الإنسان، واستبعاد التراكم التاريخي الذي حقّقته حركتها، وتقديم مفهوم جديد لهذه الحقوق، يقوم على التبسيط المُفرط، ويساهم في التهوين من خرق باقي الحقوق.
كل المؤشرات اليوم تنبئ بأن المقبل من الأيام سيكون أسوأ لحركة حقوق الإنسان، فالأوضاع سيئة والآفاق غير واضحة، ولا شيء ينبئ بأن العالم سيكون أفضل حالاً مما هو عليه اليوم على المدى القريب. وفي هذا السياق، جاءت ندوة مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان لا لتكون صرخة يأس، وإنما دعوة إلى العمل من أجل التحرك وعدم الركون إلى الاستسلام قبل فوات الأوان.
تتعرض حركة حقوق الإنسان العالمية اليوم لهجمة عنيفة، ومن أكثر من جهة معادية لها، وتجد نفسها مهدّدة أمام تنامي الحركات الشعوبية واليمين المتطرّف في الغرب، وبروز قادة عالميين شعبويين ويمينيين متطرّفين، يهدّدون بتقويض إنجازات الحركة الحقوقية في العالم. وصعود النزعة الانعزالية في الغرب بسبب تفاقم مشكلات مجتمعاتهم الاقتصادية والاجتماعية، والخوف من موجات الهجرة القادمة من الشرق أو الجنوب، والخطر الإرهابي. بالإضافة إلى سياسة الكيل بمكيالين التي تنهجها حكوماتٌ غربية كثيرة في تعاملها مع هذه الحقوق. أما التحدّيات التقليدية التي كانت تواجه هذه الحركة، أي القمع والتضييق، فقد ازدادت بقوة ودفعت مناضلين
نحن أمام حالة انقلاب عالمي على حقوق الإنسان في العالم، لم يبدأ اليوم، وإنما قبل نحو 17 سنة، عندما ساهمت الحرب الدولية ضد الإرهاب، منذ إعلانها بعد أحداث "11سبتمبر" في العام 2001 في الولايات المتحدة في إضفاء الشرعية على كثير من تجاوزات حقوق الإنسان. فتحت ذريعة مكافحة الإرهاب، ارتكبت أنظمةٌ كثيرة، بما فيها حتى الديمقراطية، أعمال قتل وتعذيب وقمع وبلطجة خارج القانون، ولم تتعرّض لأية محاسبة حقيقية حتى اليوم. وحتى من داخل حركة حقوق الإنسان، أصبحت أسئلة كثيرة تُطرح، وتتطلب أجوبةً عميقةً وآنية لرفع التحدّيات الكبيرة التي تواجه مستقبل الحركة، من قبيل: هل الاكتفاء بحرفية القانون كفيل بالنهوض من جديد بهذه الحقوق، وتحقيق حتمية انتصارها النهائي؟ وهل يجب التعامل مع الفكر الحقوقي عقيدة معارضة، بدلاً من كونها مبادئ كونية مشتركة؟ وأين يتقاطع السياسي مع الأخلاقي مع المبادئ والقيم والقوانين؟
ليس من العيب أن تجد الحركة الحقوقية اليوم نفسها محشورةً في الزاوية، بسبب ضعفها والهجوم عليها، والاختراق الذي تعرّضت له، لكن المشكل هو الاستسلام للتشكيك في مشروع مجتمعها بعد مرور 70 سنة على الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. فما يشهده العالم اليوم من انقسام حاد حول مبادئ حقوق الإنسان، والطعن في صفائها الأخلاقي، وسمو مبادئها، وطابع الكونية التي أضفي عليها، يجد تفسيره في خلافاتٍ أخلاقيةٍ وسياسيةٍ أعمق تزكّيها إيديولوجيات سياسية ومعتقدات دينية تنظر بكثير من الشك إلى قيم حقوق الإنسان ومبادئها، كما تعارفت عليها الإنسانية في ميثاقها العالمي، وطورتها في معاهداتها ومواثيقها الدولية.
طبيعة أزمة حقوق الإنسان هي أيضا ذاتية، تتعلق بخطاب الحركة الحقوقية الذي لم يُساير
ثمّة من يدفع في اتجاه تبنّي ادّعاءٍ كاذبٍ أن الأجيال الثلاثة الأولى من حقوق الإنسان أصبحت بالية، ولا فائدة من استمرار الدفاع عنها، وهو ادّعاء الهدف منه تقويض العقيدة الأساسية التي قامت عليها فلسفة حقوق الإنسان، واستبعاد التراكم التاريخي الذي حقّقته حركتها، وتقديم مفهوم جديد لهذه الحقوق، يقوم على التبسيط المُفرط، ويساهم في التهوين من خرق باقي الحقوق.
كل المؤشرات اليوم تنبئ بأن المقبل من الأيام سيكون أسوأ لحركة حقوق الإنسان، فالأوضاع سيئة والآفاق غير واضحة، ولا شيء ينبئ بأن العالم سيكون أفضل حالاً مما هو عليه اليوم على المدى القريب. وفي هذا السياق، جاءت ندوة مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان لا لتكون صرخة يأس، وإنما دعوة إلى العمل من أجل التحرك وعدم الركون إلى الاستسلام قبل فوات الأوان.