07 نوفمبر 2024
نهاية السرديات الكبرى في عصر الشبكات
لم يعد ممكناً التفكير في قضايا السياسة والمجتمع والاقتصاد وتحوُّلات القيم في العالم المعاصر، انطلاقاً من رؤية فلسفية واحدة مغلقة، فقد تلاشت بصور ملحوظة، الهيمنة التي كانت تمارسها السرديات الكبرى، في مقاربة تحوُّلات العالم وأسئلته في مختلف مجالات الحياة.
تَعَوَّد السَّاسَة والمثقفون/ طوال أغلب عقود القرن الماضي، اللجوء إلى الماركسية أو إلى الليبرالية، أو ما يرتبط بهما أو يتممهما، سواء في الصيغ النظرية التي تبلورت بها الفلسفات المذكورة في نهاية القرن التاسع عشر، أو في الصيغ التاريخية التي ارتبطت بها في تجارب النصف الأول من القرن العشرين، فقد ساهمت التحوُّلات الكبرى التي حصلت في الاقتصاد والمجتمع وفي منظومات القيم، وكذا في مجالات التقنية في أبعادها المتنوعة، في زعزعة وثوقية المفاهيم والفلسفات التي كانت تستعمل دليلاً لمعاينة ما يجري في الواقع، من أجل رسم خطط المستقبل وبرامجه.
ساهم انهيار المعسكر الاشتراكي في تقويض ما تبقَّى من الأفق الذي كان يرسمه الخيار الاشتراكي في التاريخ. ومقابل ذلك، ابتعدت النظريات الاقتصادية الجديدة، كما تمثلها النيوليبرالية في تجلياتها المتعدِّدة والمتطوِّرة، ابتعدت عن الاستعانة بالمفاهيم والخيارات الفلسفية الكبرى، لمصلحة التفكير في المعاينة الظرفية والجزئية، والإجراءات المرتبطة بقضايا محدَّدة، فَتَمَّ الانتصار للعدالة الانتقالية والعدالة اللغوية بَدَل العدالة بصورة عامة. كما اختفى التفكير، أو كاد يختفي، في الثورات، لمصلحة بناء الإجراءات والمؤامرات الكفيلة بعبور التناقضات والمصالح المتشابكة.
ويستطيع المُتَابِع للسرديات الكبرى في التاريخ أن يَتَبَيَّن، في مقابل الانقطاع الذي أشرنا إليه، بروز محاولات أخرى، تتجه إلى الإمساك بمختلف التحوُّلات التي سادت في الثلث الأخير من القرن العشرين، حيث حقَّق التحوُّل التكنولوجي طفرات كبرى في المجتمع والاقتصاد، بل وفي مختلف مظاهر الحياة، الأمر الذي ساهم في تبلور وتائر ذات إيقاع مُطَّرد وشامل لمختلف مظاهر الحياة. والإشارة، هنا، إلى عمليات التعولُم، وقد أصبحت ظاهرةً تكتسح مختلف بنيات المعمورة وظواهرها، وأصبحت علاماتها عنواناً بارزاً في التنميط المتسارع لعالمٍ جديد ينشأ في قلب القديم وبمحاذاته، يتعلق الأمر بالعالم الافتراضي.
ساهم بزوغ فجر العوالم الافتراضية في مجال التحوُّلات الجارية اليوم في العالم، ويساهم في
تحويل العالم إلى عالمين متداخلين، يختلط الواحد منهما بالآخر، ويُساهم كل منهما في تلوين ملامح الآخر، الأمر الذي نفترض أنه سيؤدي إلى تحوُّلات كبيرة في المعرفة والقيم والتاريخ.
كانت المذاهب والتيارات الفلسفية الكبرى، وقد أصبحت اليوم في حكم الخطابات المنقرضة، تستند، في النصف الأول من القرن الماضي، إلى جملةٍ من المعطيات القابلة للتأطير والتعقُّل، وبناء المفاهيم والنظريات. أما اليوم، فإن التحوُّلات التقنية المتسارعة تجري بصوَّر غير معهودة، وتُنتِج، في كل حين، خبرات ومعطيات ونتائج يصعب حصرها والإحاطة بها، وذلك على الرغم من تكوين مختبرات تشاركية للبحث، وبناء شبكات جماعية في العوالم الافتراضية للرَّصد والمعاينة.
لم يعد من السهل حصر ما يجري في العالمين الواقعي والافتراضي، ولا إدراكه، بالصوَر التي اعتدنا أن نُرتِّب فيها ما يجري أمامنا في العالم، الأمر الذي تترتب عنه تبعات لم نتمكن بعد من تقديرها ولا بنائها.
اجتهد أحد الباحثين، في نهاية القرن الماضي، فأصدر ثلاثة مجلدات بعنوان: عصر المعلومات، تناول في الأول منها مجتمع الشبكات. وفي الثاني، توقَّف لبحث ما نطلق عليه قوَّة الهُوية. وتوقف في الثالث لتحليل الجيوسياسية العالمية والفاعلين الجدد. اجتهد محاولاً الإحاطة بأبرز الجوانب المركبة لروح عصرنا. بل إننا لا نجازف، عندما نعتبره المرجع الأول والأهم في هذا المجال.
تشكل الشبكة في الأعمال المذكورة العنوان الأكبر لعالم بلا حدود، إنها البنية الاجتماعية للعصر الشبكي، وهو عصر مؤلف من شبكات الإنتاج والقوة والتجربة. تقوم الشبكات في عالمنا ببناء ثقافة افتراضية، في إطار تدفق المعلومات المتعولم، متجاوزة بذلك مفهومي الزمان والمكان، حيث حصل، في عصرنا، اختراق جميع المجتمعات بالأفعال الجارفة للمجتمع الشبكي.
يرتبط نموذج العالم الجديد المجاور والمحاذي لعالمنا بالنموذج المعلوماتي، باعتباره مُحصلة للنظم التقنية في تعقدها، إنه يُشبه خريطة الجينوم البشري، المسنود معرفياً بمعطيات رياضية متطورة ودقيقة جداً.
لم تعد السرديات الكبرى مقنعة، ولم تركِّب جهود الذكاء التشاركي في المختبرات والشبكات الافتراضية العابرة للحدود والقارات، البدائل المساعدة في عمليات الإحاطة بما يجري في عالم مركَّب من عالمين، عالم أصبحت فيه الرأسمالية المعلوماتية، بتعبيرات إيمانويل كستلز صاحب الثلاثية المذكورة، البديل لما كان يسميه ماركس، في القرن التاسع عشر، الرأسمالية الصناعية. لكن، هل يُمكِّنُنا مفهوم الشبكة، بفعل دلالاته المفتوحة والمؤسسة على قاعدة الثورة التكنولوجية في مجال المعلومات، من تَبَيُّن هذا الذي يجري في العالم اليوم؟
تَعَوَّد السَّاسَة والمثقفون/ طوال أغلب عقود القرن الماضي، اللجوء إلى الماركسية أو إلى الليبرالية، أو ما يرتبط بهما أو يتممهما، سواء في الصيغ النظرية التي تبلورت بها الفلسفات المذكورة في نهاية القرن التاسع عشر، أو في الصيغ التاريخية التي ارتبطت بها في تجارب النصف الأول من القرن العشرين، فقد ساهمت التحوُّلات الكبرى التي حصلت في الاقتصاد والمجتمع وفي منظومات القيم، وكذا في مجالات التقنية في أبعادها المتنوعة، في زعزعة وثوقية المفاهيم والفلسفات التي كانت تستعمل دليلاً لمعاينة ما يجري في الواقع، من أجل رسم خطط المستقبل وبرامجه.
ساهم انهيار المعسكر الاشتراكي في تقويض ما تبقَّى من الأفق الذي كان يرسمه الخيار الاشتراكي في التاريخ. ومقابل ذلك، ابتعدت النظريات الاقتصادية الجديدة، كما تمثلها النيوليبرالية في تجلياتها المتعدِّدة والمتطوِّرة، ابتعدت عن الاستعانة بالمفاهيم والخيارات الفلسفية الكبرى، لمصلحة التفكير في المعاينة الظرفية والجزئية، والإجراءات المرتبطة بقضايا محدَّدة، فَتَمَّ الانتصار للعدالة الانتقالية والعدالة اللغوية بَدَل العدالة بصورة عامة. كما اختفى التفكير، أو كاد يختفي، في الثورات، لمصلحة بناء الإجراءات والمؤامرات الكفيلة بعبور التناقضات والمصالح المتشابكة.
ويستطيع المُتَابِع للسرديات الكبرى في التاريخ أن يَتَبَيَّن، في مقابل الانقطاع الذي أشرنا إليه، بروز محاولات أخرى، تتجه إلى الإمساك بمختلف التحوُّلات التي سادت في الثلث الأخير من القرن العشرين، حيث حقَّق التحوُّل التكنولوجي طفرات كبرى في المجتمع والاقتصاد، بل وفي مختلف مظاهر الحياة، الأمر الذي ساهم في تبلور وتائر ذات إيقاع مُطَّرد وشامل لمختلف مظاهر الحياة. والإشارة، هنا، إلى عمليات التعولُم، وقد أصبحت ظاهرةً تكتسح مختلف بنيات المعمورة وظواهرها، وأصبحت علاماتها عنواناً بارزاً في التنميط المتسارع لعالمٍ جديد ينشأ في قلب القديم وبمحاذاته، يتعلق الأمر بالعالم الافتراضي.
ساهم بزوغ فجر العوالم الافتراضية في مجال التحوُّلات الجارية اليوم في العالم، ويساهم في
كانت المذاهب والتيارات الفلسفية الكبرى، وقد أصبحت اليوم في حكم الخطابات المنقرضة، تستند، في النصف الأول من القرن الماضي، إلى جملةٍ من المعطيات القابلة للتأطير والتعقُّل، وبناء المفاهيم والنظريات. أما اليوم، فإن التحوُّلات التقنية المتسارعة تجري بصوَّر غير معهودة، وتُنتِج، في كل حين، خبرات ومعطيات ونتائج يصعب حصرها والإحاطة بها، وذلك على الرغم من تكوين مختبرات تشاركية للبحث، وبناء شبكات جماعية في العوالم الافتراضية للرَّصد والمعاينة.
لم يعد من السهل حصر ما يجري في العالمين الواقعي والافتراضي، ولا إدراكه، بالصوَر التي اعتدنا أن نُرتِّب فيها ما يجري أمامنا في العالم، الأمر الذي تترتب عنه تبعات لم نتمكن بعد من تقديرها ولا بنائها.
اجتهد أحد الباحثين، في نهاية القرن الماضي، فأصدر ثلاثة مجلدات بعنوان: عصر المعلومات، تناول في الأول منها مجتمع الشبكات. وفي الثاني، توقَّف لبحث ما نطلق عليه قوَّة الهُوية. وتوقف في الثالث لتحليل الجيوسياسية العالمية والفاعلين الجدد. اجتهد محاولاً الإحاطة بأبرز الجوانب المركبة لروح عصرنا. بل إننا لا نجازف، عندما نعتبره المرجع الأول والأهم في هذا المجال.
تشكل الشبكة في الأعمال المذكورة العنوان الأكبر لعالم بلا حدود، إنها البنية الاجتماعية للعصر الشبكي، وهو عصر مؤلف من شبكات الإنتاج والقوة والتجربة. تقوم الشبكات في عالمنا ببناء ثقافة افتراضية، في إطار تدفق المعلومات المتعولم، متجاوزة بذلك مفهومي الزمان والمكان، حيث حصل، في عصرنا، اختراق جميع المجتمعات بالأفعال الجارفة للمجتمع الشبكي.
يرتبط نموذج العالم الجديد المجاور والمحاذي لعالمنا بالنموذج المعلوماتي، باعتباره مُحصلة للنظم التقنية في تعقدها، إنه يُشبه خريطة الجينوم البشري، المسنود معرفياً بمعطيات رياضية متطورة ودقيقة جداً.
لم تعد السرديات الكبرى مقنعة، ولم تركِّب جهود الذكاء التشاركي في المختبرات والشبكات الافتراضية العابرة للحدود والقارات، البدائل المساعدة في عمليات الإحاطة بما يجري في عالم مركَّب من عالمين، عالم أصبحت فيه الرأسمالية المعلوماتية، بتعبيرات إيمانويل كستلز صاحب الثلاثية المذكورة، البديل لما كان يسميه ماركس، في القرن التاسع عشر، الرأسمالية الصناعية. لكن، هل يُمكِّنُنا مفهوم الشبكة، بفعل دلالاته المفتوحة والمؤسسة على قاعدة الثورة التكنولوجية في مجال المعلومات، من تَبَيُّن هذا الذي يجري في العالم اليوم؟