13 فبراير 2022
نهاية الدولة "الوطنية" العربية
لا يمكن فهم حالة التفكك والتشظي التي تضرب المنطقة العربية الآن بدون التعرّض لإخفاقات الدولة "الوطنية" التي قامت على أنقاض الدولة العثمانية التي سقطت خلال الربع الأول من القرن العشرين. كما لا يمكن إيجاد مقاربة منطقية لتحول ظواهر هامشية، وإنْ متطرّفة، مثل ظاهرة "داعش" إلى متن السياسة في العالم العربي، من دون وضع ذلك في إطار الاستجابات المتنوعة لتلك الإخفاقات المتراكمة لهذه الدولة، وذلك ضمن أسباب أخرى ليس محلها هذا المقال.
على مدار قرن، ظنّت النخب الحداثية العربية أن مجرد قيام دولة وطنية كفيلٌ بتحقيق هدفين أساسيين، الاستقلال الوطني عن الاستعمار والخروج من تحت سيطرة الكولونيالية الغربية، وإنجاز التنمية والتحديث والخروج من الجهل والتخلف الذي فرضته حالة الجمود التي أصابت الدولة العثمانية خلال قرنيها الأخيرين، بحسب وجهة نظرهم.
الآن، وبعد مرور قرن على قيام الدولة "الوطنية" الحديثة، أو دولة ما بعد الاستقلال، كانت النتيجة هي الفشل التام في إنجاز أيٍّ من هدفيها الرئيسيين. ولم تلق النخب العربية ابتداءً لذلك التناقض الكامن في بنية هذه الهدفين، فكيف يمكن تحقيق استقلال وطني ناجز، بالمعنيين السياسي والحضاري، في الوقت الذي تُقلّد فيه ذلك المستعمر من أجل تحقيق التنمية والتحديث؟! بكلمات أخرى، كان من العسير الجمع بين استقلال وطني وحضاري حقيقي، من خلال تقليد مشروع تحديثي قائم بالأساس على استيراد ثقافةٍ ومفرداتٍ تمثل خلاصة المنتج الحضاري لذلك المستعمر الذي حاولت الدولة العربية الاستقلال عنه، أو هكذا زعمت، ولا تزال، نخبتها الحداثية.
ويمكن القول، بقدر من الثقة، إن الدولة العربية الحديثة لم تنشأ بعد، وأن ما جرى، طوال القرن الماضي، لم تكن سوى محاولاتٍ متكرّرة لبناء هذه الدولة، باءت جميعها بالفشل. واستحضار تاريخي موجز لأطوار هذه الدولة يؤكد هذه الحقيقة. فقد مرّت هذه المحاولات بخمسة أطوار فشلت جميعها في تحقيق أهدافها المرجوّة منها. كان الأول مع قيام دولة الاستقلال في بلدان المشرق العربي، العراق وسورية ولبنان، مروراً بمصر والسودان، وبعدها بلدان المغرب العربي، بدءاً من ليبيا وحتى المغرب، مروراً بتونس والجزائر، وانتهاء ببلدان الخليج العربي. وكما أشير سابقاً، فشلت محاولة بناء دولة مستقلة بشكل حقيقي، نتيجة التناقض الكامن في بنيتها الغائية بين محاولة التخلص من الاستعمار السياسي، ولكن من خلال الوقوع في نموذجه التحديثي الثقافي.
تمثل الطور الثاني، أو المحاولة الثانية لبناء الدولة العربية، في الدولة "القومية"، وهي الدولة التي وضعت الوحدة العربية هدفاً رئيسياً لها، وجعلت من قضية فلسطين بمثابة ترمومتر لها ولنجاحها. وليس غريباً أن هذه الدولة فشلت فشلاً ذريعاً في ليس فقط في تحقيق هدفها بإنجاز الوحدة القومية المتخيلة، وإنما أيضاً بالحفاظ على فلسطين وقضيتها. وسقطت هذه المحاولة لبناء الدولة القومية مع نكسة 1967 التي حولتها أطلالاً يجري البكاء عليها في الخامس من يونيو/ حزيران كل عام. ومن المفارقات، أنه قد وصل بنا الحال الآن ليس إلى الحديث عن وحدة قومية، وإنما عن كيفية الحفاظ على الدولة القطرية كياناً متماسكاً بعد سلسلة الانهيارات التي تتعرّض لها الآن.
الطور الثالث هو ما يسميه الباحث المصري الراحل، نزيه الأيوبي، الدولة المتضخمة، وهي التي نجحت في تأسيس جهاز بيروقراطي ضخم، يمكنه تقديم الخدمات الأساسية للمجتمع من صحة وتعليم وبنية تحتية. وقد استمرت هذه الدولة منذ أواخر الستينيات وحتى أواخر الثمانينيات، وانتهت إلى "فيل" كبير، أصبح عبئاً على نفسه وعلى المجتمع. ولم يبق من هذه الدولة المترهلة سوى جهازها الأمني الذي ازداد توحشاً مع إخفاقات هذه الدولة، وتحولها إلى دولةٍ خادمةٍ للنظام ورأسه، وليس للشعب أو المواطنين.
وجاء الطور الرابع لمحاولة بناء الدولة بزيّ ديني، من خلال حالة الصحوة التي شهدتها الساحة السياسية والدينية في العالم العربي، فنجحت الحركة الإسلامية في السودان في الوصول إلى السلطة من خلال انقلابها الشهير عام 1989 بالتحالف مع العسكر. وادّعت وقتها إنها بصدد بناء دولة إسلامية تحكم بالشريعة، وتسعى إلى تحقيق الحلم الإسلامي الطوباوي بدولة عادلة لجميع مواطنيها، وذلك حتى انتهى الحال بالسودان إلى إقامة دولة سلطوية بغطاء ديني، لم تحقق عدلاً ولم تنصف أحداً.
ثم جاء الطور الأخير للدولة العربية خلال العقد الأخير، والذي يقع تحت عنوان عريض، وهو "الدولة الفاشلة". وهي الدولة التي فقدت مقومات بقائها وشرعيتها الداخلية من جهة، في حين لا تمتلك سيادةً مطلقة على أراضيها وإقليمها من جهة أخرى، كما هي الحال في العراق والصومال وليبيا وسورية واليمن، على سبيل المثال. لم تعد هذه الدولة تمتلك أياً من مقومات البقاء سواء الشكلية (كالشعب والإقليم والسلطة والاعتراف الدولي) أو الموضوعية كالشرعية واحتكار استخدام العنف والسيطرة على أراضيها.
الملفت في الأمر، أنه على الرغم من كل محاولات الفشل في بناء دولة عربية حقيقية، إلا أن النخب الحداثية لا تزال تتمسك برؤيتها ومشروعها عن الدولة المتخيلة التي يتم فرضها قسراً من أعلى على المجتمع والمواطنين، من دون أن يكون لهم رأي فيها، وهذا أحد مكامن الفشل المتواصل لهذه الدولة.
على مدار قرن، ظنّت النخب الحداثية العربية أن مجرد قيام دولة وطنية كفيلٌ بتحقيق هدفين أساسيين، الاستقلال الوطني عن الاستعمار والخروج من تحت سيطرة الكولونيالية الغربية، وإنجاز التنمية والتحديث والخروج من الجهل والتخلف الذي فرضته حالة الجمود التي أصابت الدولة العثمانية خلال قرنيها الأخيرين، بحسب وجهة نظرهم.
الآن، وبعد مرور قرن على قيام الدولة "الوطنية" الحديثة، أو دولة ما بعد الاستقلال، كانت النتيجة هي الفشل التام في إنجاز أيٍّ من هدفيها الرئيسيين. ولم تلق النخب العربية ابتداءً لذلك التناقض الكامن في بنية هذه الهدفين، فكيف يمكن تحقيق استقلال وطني ناجز، بالمعنيين السياسي والحضاري، في الوقت الذي تُقلّد فيه ذلك المستعمر من أجل تحقيق التنمية والتحديث؟! بكلمات أخرى، كان من العسير الجمع بين استقلال وطني وحضاري حقيقي، من خلال تقليد مشروع تحديثي قائم بالأساس على استيراد ثقافةٍ ومفرداتٍ تمثل خلاصة المنتج الحضاري لذلك المستعمر الذي حاولت الدولة العربية الاستقلال عنه، أو هكذا زعمت، ولا تزال، نخبتها الحداثية.
ويمكن القول، بقدر من الثقة، إن الدولة العربية الحديثة لم تنشأ بعد، وأن ما جرى، طوال القرن الماضي، لم تكن سوى محاولاتٍ متكرّرة لبناء هذه الدولة، باءت جميعها بالفشل. واستحضار تاريخي موجز لأطوار هذه الدولة يؤكد هذه الحقيقة. فقد مرّت هذه المحاولات بخمسة أطوار فشلت جميعها في تحقيق أهدافها المرجوّة منها. كان الأول مع قيام دولة الاستقلال في بلدان المشرق العربي، العراق وسورية ولبنان، مروراً بمصر والسودان، وبعدها بلدان المغرب العربي، بدءاً من ليبيا وحتى المغرب، مروراً بتونس والجزائر، وانتهاء ببلدان الخليج العربي. وكما أشير سابقاً، فشلت محاولة بناء دولة مستقلة بشكل حقيقي، نتيجة التناقض الكامن في بنيتها الغائية بين محاولة التخلص من الاستعمار السياسي، ولكن من خلال الوقوع في نموذجه التحديثي الثقافي.
تمثل الطور الثاني، أو المحاولة الثانية لبناء الدولة العربية، في الدولة "القومية"، وهي الدولة التي وضعت الوحدة العربية هدفاً رئيسياً لها، وجعلت من قضية فلسطين بمثابة ترمومتر لها ولنجاحها. وليس غريباً أن هذه الدولة فشلت فشلاً ذريعاً في ليس فقط في تحقيق هدفها بإنجاز الوحدة القومية المتخيلة، وإنما أيضاً بالحفاظ على فلسطين وقضيتها. وسقطت هذه المحاولة لبناء الدولة القومية مع نكسة 1967 التي حولتها أطلالاً يجري البكاء عليها في الخامس من يونيو/ حزيران كل عام. ومن المفارقات، أنه قد وصل بنا الحال الآن ليس إلى الحديث عن وحدة قومية، وإنما عن كيفية الحفاظ على الدولة القطرية كياناً متماسكاً بعد سلسلة الانهيارات التي تتعرّض لها الآن.
الطور الثالث هو ما يسميه الباحث المصري الراحل، نزيه الأيوبي، الدولة المتضخمة، وهي التي نجحت في تأسيس جهاز بيروقراطي ضخم، يمكنه تقديم الخدمات الأساسية للمجتمع من صحة وتعليم وبنية تحتية. وقد استمرت هذه الدولة منذ أواخر الستينيات وحتى أواخر الثمانينيات، وانتهت إلى "فيل" كبير، أصبح عبئاً على نفسه وعلى المجتمع. ولم يبق من هذه الدولة المترهلة سوى جهازها الأمني الذي ازداد توحشاً مع إخفاقات هذه الدولة، وتحولها إلى دولةٍ خادمةٍ للنظام ورأسه، وليس للشعب أو المواطنين.
وجاء الطور الرابع لمحاولة بناء الدولة بزيّ ديني، من خلال حالة الصحوة التي شهدتها الساحة السياسية والدينية في العالم العربي، فنجحت الحركة الإسلامية في السودان في الوصول إلى السلطة من خلال انقلابها الشهير عام 1989 بالتحالف مع العسكر. وادّعت وقتها إنها بصدد بناء دولة إسلامية تحكم بالشريعة، وتسعى إلى تحقيق الحلم الإسلامي الطوباوي بدولة عادلة لجميع مواطنيها، وذلك حتى انتهى الحال بالسودان إلى إقامة دولة سلطوية بغطاء ديني، لم تحقق عدلاً ولم تنصف أحداً.
ثم جاء الطور الأخير للدولة العربية خلال العقد الأخير، والذي يقع تحت عنوان عريض، وهو "الدولة الفاشلة". وهي الدولة التي فقدت مقومات بقائها وشرعيتها الداخلية من جهة، في حين لا تمتلك سيادةً مطلقة على أراضيها وإقليمها من جهة أخرى، كما هي الحال في العراق والصومال وليبيا وسورية واليمن، على سبيل المثال. لم تعد هذه الدولة تمتلك أياً من مقومات البقاء سواء الشكلية (كالشعب والإقليم والسلطة والاعتراف الدولي) أو الموضوعية كالشرعية واحتكار استخدام العنف والسيطرة على أراضيها.
الملفت في الأمر، أنه على الرغم من كل محاولات الفشل في بناء دولة عربية حقيقية، إلا أن النخب الحداثية لا تزال تتمسك برؤيتها ومشروعها عن الدولة المتخيلة التي يتم فرضها قسراً من أعلى على المجتمع والمواطنين، من دون أن يكون لهم رأي فيها، وهذا أحد مكامن الفشل المتواصل لهذه الدولة.