نهاية الإذعان الاجتماعي

14 يونيو 2014

James Graham

+ الخط -

ربما من بين أهم دلالات أحداث الربيع العربي، على الرغم من تعثراته وانتكاساتها في جل بلدانه، نهاية الإذعان الاجتماعي المفروض قهرياً من الأنظمة الحاكمة. وهذا، بحد ذاته، نقلة نوعية، ليس فقط من حيث الوعي السياسي عربياً، بل، وأيضاً، من حيث مقاربة الشعوب العربية للشأن العام. وبالطبع، ليست هذه النقلة مصادفة، بل هي نتاج تراكمات تاريخية، فهي نتاج التحولات الاجتماعية والسياسية، التي عرفها العالم العربي في العقود الأخيرة. وبما أن الإذعان الاجتماعي سيرورة اجتماعية تاريخية، فإن نهايته سيرورة اجتماعية أيضاً تتبلور عبر تحولات بدأت منذ عقد الثمانينيات، حيث عرفت بلدان عربية عديدة انتفاضات اجتماعية، لكنها كانت محدودة جغرافياً وزمنياً. ولم تأت هذه التحولات أكلها، على الرغم من الحراك الاجتماعي النسبي في نهاية التسعينيات ومطلع العقد المنصرم. ويعود ذلك إلى عدة عوامل، أبرزها تمكن أنظمة الحكم من إفراغ المطالب الشعبية من محتواها، وإجهاض العمليات الانتقالية بتكريس ديمقراطية الواجهة من جهة، والطفرة الإرهابية التي أفسدت التحرك الاجتماعي، وأعطت ذريعة للأنظمة لتجعل من الدولة العربية دولة أمنية بكل المقاييس، من جهة ثانية. وتمخض عن ذلك، مع مرور الوقت، "شرعية أمينة" تتذرع بها الأنظمة مسوغاً لسلوكياتها القمعية، وبقائها في الحكم.
لكن تعزيز الوظيفة الأمنية للدولة، وتكريس آلتها القمعية وتحديثها، جعل الأنظمة تغض البصر عن التحولات الاجتماعية، وعن الهوة التي تزداد اتساعاً بين الدولة والمجتمع، محتكمةً إلى القوة، وإلى مقولة "طاعة أولي الأمر"، كأهم أدوات استعباد الناس. فكانت الخطيئة مزدوجة، لأن الاستقرار لا يبنى على القوة، ولأن توظيف الدين أسوأ وأخطر مقاربة للمقدس في عالم المدنس...
إجهاض الحركات الاجتماعية الاحتجاجية، في العقدين الأخيرين من القرن الماضي ومطلع القرن الحالي، أعطى الانطباع بأنها عرضية، وتتعلق بظروف المعيشة لا غير، مما جعل الأنظمة تطمئن على سلطتها، معولة، كالعادة، على آلتها القمعية، لإخماد ما اعتاد الخطاب الرسمي على تسميته "نار الفتنة". إنه بؤس السياسة في الديار العربية، فإذا كان التظاهر في الديمقراطيات الغربية ممارسة للديمقراطية، فإنه في البلدان العربية إذكاء لنار الفتنة! وربما أبرز المقولات الدينية فتكاً بالسياسة مقولة "طاعة أولي الأمر" التي تُوظف درعاً دينية ً، تقي الحكام، وليس الشعوب، من الفتن. وفي هذه المقولة دلالة على تناقض في المفردات، ما بعده تناقض، فحتى وإن جادلنا هذه الفكرة من منظور ديني، نلاحظ أنها غير مؤسسة على الإطلاق. فهل يعقل أن يُطاع مخلوق في معصية الخالق؟ فالقائمون على أمر الناس في البلاد العربية-الإسلامية لم يطيعوا خالقهم، ويطالبون الناس بطاعتهم! فهم عبثوا بالأمر بل وأفسدوه.

"إجهاض الحركات الاجتماعية الاحتجاجية، في العقدين الأخيرين من القرن الماضي ومطلع القرن الحالي، أعطى الانطباع بأنها عرضية، وتتعلق بظروف المعيشة لا غير، مما جعل الأنظمة تطمئن على سلطتها، معولة، كالعادة، على آلتها القمعية، لإخماد ما اعتاد الخطاب الرسمي على تسميته (نار الفتنة) "


نظراً لتعود السلطة على إذعان المجتمع، خصوصاً مع التراكمات التراثية لطاعة أولي الأمر، اعتقد أصحاب السلطان، ومن يساندهم، أن توظيف مقولات قديمة كفيل بإبقاء المجتمع تحت قبضتهم. لكن الحديث عن طاعة الحكام، أصبح مسألةً لا محل لها من السياسة بالنسبة إلى الأجيال الطالعة. فالشباب، الذي يشكل الأغلبية في المجتمعات العربية، لم يعرف الثورات والحروب التحريرية والاستقلال، ولا تصفية الحسابات السياسية داخل السلطة (عقب الاستقلال) ولا الانقلابات. فله تطلعات وآمال تختلف عن التي كان يحلم بها جيل الاستقلال، فشباب اليوم أقل حساسية للخطاب الوطني الحماسي – الذي لا يسمن ولا يغني من جوع – المقدس للوضع القائم والممجد للماضي. لكن هياكل السلطة بقيت على حالها، مما زاد من محنة شرعية الأنظمة العربية الحاكمة، وجعلها تنفصل نهائياً عن المجتمع. فكان أن عمّق هذا كله الانفصال بين الدولة والمجتمع، وأزمة الثقة بين الحاكم والمحكوم. ومن ثم تفاقمت محنة الشرعية، فالشرعية "الثورية" أو "التاريخية" أو"الدينية" أو "الأمنية" (وليدة حقبة الإرهاب)، التي تدّعيها الأنظمة العربية، لا تعني شيئاً بالنسبة إلى الشباب العربي، خصوصاً وأنها أهلكت البلاد والعباد، وجلبت الخراب والدمار. تذمر الشباب من ممارسات السلطة، ومن الظلم الاجتماعي، جعله لا يبدي أية قابلية للإقناع السياسي والتعبئة الشعبية، ولم يعد يبالي بالمناورة والتلاعب بالشعارات والقيم الوطنية، الوهمية أصلاً، وهي اللعبة المعتادة للسلطة بمختلف توجهاتها. فلا قناعة له، إطلاقاً، بأهلية الحكام في السلطة...
بدأ الشباب العربي عبر احتجاجات في أكثر من بلد، وبدرجات متفاوتة، يتغلب على الخوف، ويتمرد على الوضع القائم، رافعاً بذلك سقف المطالب تدريجياً، في مقابل تشدد الأنظمة. ونظراً لانسداد الأفق، أصبح جزء  منه فريسة للفكر المتطرف، الذي تُشكل الأنظمة أحد روافده... وأصبح الشباب العربي أمام خيارين: الإذعان الاجتماعي الذي يسعى أهل السلطان إلى أن يُورث اجتماعياً (بينما يورثون السلطة فيما بينهم)؛ أو الهجرة، أي مغادرة بلدانهم، نحو الغرب خصوصاً، بحثاً عن العيش الكريم والحرية. وكانت الأنظمة مرتاحة للخيارين، فالأول يوفر لها الأمن، وبالتالي الاستمرار وتوريث السلطة، أما الثاني فيخلق متنفساً يسمح لها بالتخلص من الجزء الأكثر تمرداً من شعوبها، وبرفع مداخيلها من العملة الصعبة (تحويلات المهاجرين).
وبدا المشهد العربي مسدوداً، وكأن الأمر حتمية تاريخية، بيد أن أحداث الربيع العربي قلبت الأمور تماماً، وأخرجت الشباب العربي من الاختيار بين خيارين أحلاهما مر، لتفتح الطريق لخيار ثالث: بناء الدولة الديمقراطية. وإذا كانت هذه الأحداث مفاجئة بكل المقاييس، فإنها لم تأت من فراغ، بل هي نتاج تراكمات اجتماعية وسياسية. والدرس الأبرز المستخلص من هذه الأحداث هو نهاية الإذعان الاجتماعي، ومقولة طاعة أولي الأمر، وإن بقيت هذه الأخيرة ذراعاً دينية-أيديولوجية، تستند إليها أنظمة عربية بقيت (إلى حد الآن) في منأى عن التغيير.