ملامح فجر جديد طال احتجابه، بات جلياً في الهبة الفلسطينية، وإن بدا للبعض أنها تعرضت/ تتعرض لطمس متعمد ومقصود. أعني بهذه الملامح تحديداً امتداد الغضب الفلسطيني إلى كل تفاصيل الجغرافية الفلسطينية بدوائرها الثلاث؛ الساحل الفلسطيني، وما سميت بالضفة الغربية وما تعارفنا على تسميته بقطاع غزة. وتكامل هذه الدوائر وفعاليتها حين تقيض لها قيادة قادرة على تحريكها في معركة التحرير.
تكامل هذه الدوائر الثلاث، رغم البؤس الذي ألم بخطاب غالبية الفصائل الفلسطينية حين حوّل فلسطين إلى شظية تدعى الضفة الغربية وشظية أخرى تدعى قطاع غزة، لم يكن غائباً عن أفق الوعي الشعبي المخلص دائماً للذاكرة ولملامح الهوية التي لا تصنعها التضاريس الأرضية فقط، بل ويصنعها وعي الإنسان، في اللغة ومناهج التفكير والسلوك. ربما لهذا السبب ظلت تتلامح في الأفق إمكانية عودة الفلسطيني إلى وطنه متخطياً الخريطة الشائهة التي رسمتها مقدمات أوسلو ومخرجاتها.
دوائر فلسطين الثلاث التي تأخر التعبير كثيراً عن تكاملها على الصعيد الثقافي، ناهيك عن الصعيد السياسي، تعبر عن نفسها الآن، بتأكيد من أطلقوا عليهم اسم "عرب 1948" فلسطينيتهم الفاعلة، وبوادر التحاق من خُلعوا عن خريطة وطنهم إلى اللجوء، بحركة مقاومة شعبهم.
تتكامل الدوائر الثلاث، وكان يجب أن تتكامل، لأنها في تكاملها تمنح المعنى للهوية السياسية والثقافية، وتعيد لصورة فلسطين أجزاءها المفقودة، وللمصطلح براءته وجدواه في خضم الصراع المتواصل منذ ما يقارب مائة عام.
حين تم تشويه الخريطة الفلسطينية، وتمت تسمية ما نسبته 80% من أرض فلسطين باسم المستعمرة المقامة عليه، "إسرائيل" ، بدأ تشويه الوعي الفلسطيني، وبدأ استعمار مخيلته بعد أن اكتمل استعمار أرضه أو كاد.
المستعمرات الصهيونية حين تقام على الأرض تظل هشة ويمكن إزالتها بوسيلة أو بأخرى، طال الزمن أم قصر، ولهذا السبب عمل الصهاينة منذ بداية استعمار فلسطين على زرع مستعمراتهم في الأدمغة، في عقول مواطني الشعوب الأوروبية والشرقية، وعقول العرب على اختلاف جنسياتهم وأقطارهم، بل وفي عقول الفلسطينيين. فألصقوا بأرضنا وملامحها أسماءهم، وانتقلت هذه الأسماء إلى وعي الآخر الفلسطيني، والعربي بعامة، وبقية شعوب الكرة الأرضية.
ومن يتابع الآن ما تبثه شاشات الفضائيات من أخبار وتحليلات وتعليقات حول معركة المقاومة الراهنة، يدرك المدى الذي بلغه هذا المستعمر في استعمار اللغات العربية وغير العربية. فحين تسمى أرض فلسطين المحتلة "إسرائيل" ألا يعني هذا أن العدو نجح في تحريف وعينا بل وتجريفه؟
وحين يستخدم حتى مذيع نشرة الأخبار الفلسطيني تعبير " تسلل" حين يصف اقتحام فلسطيني لمستعمرة مقامة على أرضه المحتلة ألا يذكر هذا بالمصطلح الصهيوني ذاته الذي كان يصف الفلسطيني العائد إلى قريته المحتلة بصفة "المتسلل"؟
عرف الفلسطيني، منذ بداية الهجمة الاستعمارية على وطنه، أسماءه وتمسك بها، عرف من هو، وأين مكانه في هذا الوجود، وإلى أية أمة ينتمي، والأهم أنه عرف منذ اليوم الأول أن هذا الاستعمار القادم من وراء البحار يستهدف إبادته والاستيلاء على أرضه، وأن الصراع الذي سينشأ سيكون صراع وجود.
ولكن هذا اليقين الشبيه بالإيمان تزعزع بفعل الاضطهاد والعذاب اللذين تعرض لهما الإنسان الفلسطيني، وبفعل لجوئه الطويل وتعدد القوى التي أحاطت به أو طوحت به من منفى إلى منفى. حتى أصبح حاله شبيهاً بحال ذلك الخارج من غرفة تعذيب فقد فيها ذاكرته ونسي حتى اسمه، فبدأ يسأل من حوله متوسلا:" أرجوكم قولوا لي من أنا"!
(كاتب فلسطيني)
اقرأ أيضاً: علم آثار من أجل التحرير والعودة إلى التاريخ