05 يونيو 2017
نقد الدولة ونقضها
شكلت أحداث السنوات القليلة الماضية في الوطن العربي دافعاً إضافياً لتفعيل النقاش حول الدولة العربية، والموقف منها، وقد كان النقاش قائماً قبل الربيع العربي، ومنذ تأسيس الدولة العربية الحديثة، نظراً للظروف التي تشكلت في إطارها هذه الدولة، والتساؤل حول علاقتها بمجتمعها، وقدرتها على القيام بوظائفها. كان نقد الدولة وأداؤها وما زال سمة أساسية في كتابات مثقفين حداثيين كثيرين، وفي أحاديث النشطاء والحقوقيين، ودعاة المجتمع المدني، والمعارضين السياسيين، لكن التدقيق في ماهية هذا النقد يشير إلى فرقٍ رئيس بين من ينتقدون الدولة لإصلاح مكامن الخلل فيها ومن يعادونها مفهوماً وتطبيقات، ويسعون إلى نقضها وإلغائها.
سعت الأنظمة التسلطية، على الدوام، إلى مطابقة مفهومي السلطة والدولة في أذهان الناس، بل إنها سعت إلى المطابقة بين الزعيم الفرد والدولة، وربط مصيرهما معاً. الملاحظ أن كثيرين من معارضي هذه الأنظمة تلقف هذه المطابقة، وكرَّسها، فلم يعد معارضون معروفون يفرِّقون بين الدولة، بوصفها كياناً يمثل عموم المجتمع ومصالحه، ويؤسّس المشترك العمومي، والسلطة باعتبارها نخبةً تدير جهاز الدولة. وهكذا، نجد في دعوات هؤلاء إلى إسقاط النخب السياسية الحاكمة دعوة إلى هدم الدولة ومؤسساتها، أو توسلاً بأدوات هدم الدول والمجتمعات وتفكيكها، من استدعاء التدخلات العسكرية الأجنبية، إلى امتطاء التنظيمات الجهادية.
يمكن نقد الممارسات القمعية في الدول العربية، وتغييب الحريات، لكن الحديث عن تقليص الدولة لصالح مؤسسات المجتمع المدني، أو من أجل تأسيس الديمقراطية، يشي بغياب فهم أهمية الدولة لتأسيس الديمقراطية، وقيام المجتمع المدني، فالديمقراطية لا تتأسّس في العراء، بل تحتاج إلى مؤسسات الدولة لتتجسّد، كما أن وجود مؤسسات المجتمع المدني مرتبطٌ بالدولة الحديثة. وعليه، لا يمكن أن يكون إضعاف الدولة أو بقاؤها هشّة إلا إضعافاً للديمقراطية والمجتمع المدني.
يذهب بعض مناهضي الدولة بعيداً في الدعوة إلى تقليص حضورها ودورها. وعند التدقيق نجد أن هذه الدعوة تهدف إلى التأكيد على سلطة الجماعات الأهلية، من عشائر وطوائف، على
أفرادها، وإنكار واجب الدولة في حماية حق الفرد في الاختيار. طبعاً، لا يمكن إنكار تغذية الدولة العربية البنى التقليدية في مجتمعاتنا، وإعادة إنتاج العصبيات التقليدية وتوظيفها سياسياً، وهذا أحد أسباب هشاشتها، لكن الدفع باتجاه قيام مجالٍ سياسي حديث يعني، بالضرورة، رفض سلوك السلطة السياسية في تعزيز ومأسسة البنى التقليدية، العشائرية والطائفية، لا تعزيز حضور العصبيات التقليدية باسم الدفاع عن المجتمع في مواجهة تغوّل الدولة. وتكرّس هذه الدعوة هشاشة الدولة وضعفها، وتشجع على مأسسة العصبيات التقليدية، ما يناقض نشوء مجالٍ سياسيٍّ حديث، ويقحم المجتمع في أزماتٍ متوالية.
المقولات التبسيطية من نوع: الدولة ضد المجتمع، أو الدولة مجرّد أداة قمع بيد النخبة السياسية ضد الناس، لا تفسر قبول الناس بالدولة واندماجهم فيها، وكما يلحظ عبدالإله بلقزيز، فإن درجة استعمال الأجهزة غير القمعية للدولة أعلى بكثير من استعمال الأجهزة القمعية التي ينحصر استخدامها في حالات الأزمة، أو بحق أفراد محدّدين تعتقد السلطة أنهم يشكلون خطراً عليها. لذلك، هناك قبول طوعي مبني على أسباب اقتصادية وأمنية وثقافية ومعيشية، وليست مجرد علاقة قهر وقمع، وإن كان القمع جزءاً من عملية تأكيد الهيمنة، يزيد استخدامه في الحالة العربية مع تضاؤل مصادر الشرعية التي تنتج قبول الناس الطوعي.
يختلف أيضاً ناقدو أداء الدولة في الملف الاقتصادي مع مناهضي دورها في هذا الملف، إذ
ينتقد الفريق الأول تقصير الدولة في مكافحة الفساد، وتردّي العملية التنموية، وزيادة معدلات البطالة والفقر، والاعتماد الكامل على الوصفات والمعونات الخارجية، لكن هذا النقد يستبطن الطلبَ من الدولة أن تقوم بأدوارها، وأن تحسّن أداءها، لتلبي احتياجات الناس، فيما ينتقد الفريق الثاني دور الدولة في أساسه، وينادي بتحرير السوق من هيمنة الدولة، ويناهض دورها في التخطيط الاقتصادي، وضبط الأسعار، وتقديم الخدمات الأساسية من تعليمٍ وطبابة بالمجان، لأن هذا يحد من حرية التجار وأصحاب رؤوس الأموال، ومن أرباحهم بالقطع.
من ينتقد مُطَالِباً بتحسين أداء الدولة، ودفعها إلى القيام بوظائفها في الرعاية الاجتماعية على النحو المطلوب، لا يريد أن يبتلع السوق الناس، ويسيطر المحتكرون على الثروة، مستخدمين صلاتهم بالنخب السياسية في جهاز الدولة، وهم يحفظون للدولة تقديمها التعليم والرعاية الصحية بالمجان، ومساهمتها، في بعض الحالات العربية على الأقل، في توسيع الطبقة الوسطى، وتقديم الدعم للفئات المحتاجة، غير أنهم يطالبون بعدم تخليها عن هذا الدور، لأن إلغاء دورها الاقتصادي يؤدي إلى ما شهدناه من كوارث اقتصادية في الوطن العربي، تمثلت في توسع الفقر والبطالة والتفاوت الطبقي بين الناس.
شهدنا، في العقدين الماضيين، أثر تغييب الدولة اقتصادياً بفعل تطبيق الوصفات النيوليبرالية، وقد كان هذا أحد أهم أسباب الانفجار الكبير خلال السنوات الست الماضية التي عايشنا فيها أثر تحوّل مطالب تغيير الأنظمة في بعض الدول إلى حروب أهلية وانفلات رهيب، يعزّزه تآكل الدولة. تقدم هذه الصورة العبرة لمن يحرص على أمن الناس وحياتهم، فيما يخص الموقف من الدولة وأدائها. كانت هشاشة الدولة العربية أساساً في تشكيل أزماتنا، وما زالت.
سعت الأنظمة التسلطية، على الدوام، إلى مطابقة مفهومي السلطة والدولة في أذهان الناس، بل إنها سعت إلى المطابقة بين الزعيم الفرد والدولة، وربط مصيرهما معاً. الملاحظ أن كثيرين من معارضي هذه الأنظمة تلقف هذه المطابقة، وكرَّسها، فلم يعد معارضون معروفون يفرِّقون بين الدولة، بوصفها كياناً يمثل عموم المجتمع ومصالحه، ويؤسّس المشترك العمومي، والسلطة باعتبارها نخبةً تدير جهاز الدولة. وهكذا، نجد في دعوات هؤلاء إلى إسقاط النخب السياسية الحاكمة دعوة إلى هدم الدولة ومؤسساتها، أو توسلاً بأدوات هدم الدول والمجتمعات وتفكيكها، من استدعاء التدخلات العسكرية الأجنبية، إلى امتطاء التنظيمات الجهادية.
يمكن نقد الممارسات القمعية في الدول العربية، وتغييب الحريات، لكن الحديث عن تقليص الدولة لصالح مؤسسات المجتمع المدني، أو من أجل تأسيس الديمقراطية، يشي بغياب فهم أهمية الدولة لتأسيس الديمقراطية، وقيام المجتمع المدني، فالديمقراطية لا تتأسّس في العراء، بل تحتاج إلى مؤسسات الدولة لتتجسّد، كما أن وجود مؤسسات المجتمع المدني مرتبطٌ بالدولة الحديثة. وعليه، لا يمكن أن يكون إضعاف الدولة أو بقاؤها هشّة إلا إضعافاً للديمقراطية والمجتمع المدني.
يذهب بعض مناهضي الدولة بعيداً في الدعوة إلى تقليص حضورها ودورها. وعند التدقيق نجد أن هذه الدعوة تهدف إلى التأكيد على سلطة الجماعات الأهلية، من عشائر وطوائف، على
المقولات التبسيطية من نوع: الدولة ضد المجتمع، أو الدولة مجرّد أداة قمع بيد النخبة السياسية ضد الناس، لا تفسر قبول الناس بالدولة واندماجهم فيها، وكما يلحظ عبدالإله بلقزيز، فإن درجة استعمال الأجهزة غير القمعية للدولة أعلى بكثير من استعمال الأجهزة القمعية التي ينحصر استخدامها في حالات الأزمة، أو بحق أفراد محدّدين تعتقد السلطة أنهم يشكلون خطراً عليها. لذلك، هناك قبول طوعي مبني على أسباب اقتصادية وأمنية وثقافية ومعيشية، وليست مجرد علاقة قهر وقمع، وإن كان القمع جزءاً من عملية تأكيد الهيمنة، يزيد استخدامه في الحالة العربية مع تضاؤل مصادر الشرعية التي تنتج قبول الناس الطوعي.
يختلف أيضاً ناقدو أداء الدولة في الملف الاقتصادي مع مناهضي دورها في هذا الملف، إذ
من ينتقد مُطَالِباً بتحسين أداء الدولة، ودفعها إلى القيام بوظائفها في الرعاية الاجتماعية على النحو المطلوب، لا يريد أن يبتلع السوق الناس، ويسيطر المحتكرون على الثروة، مستخدمين صلاتهم بالنخب السياسية في جهاز الدولة، وهم يحفظون للدولة تقديمها التعليم والرعاية الصحية بالمجان، ومساهمتها، في بعض الحالات العربية على الأقل، في توسيع الطبقة الوسطى، وتقديم الدعم للفئات المحتاجة، غير أنهم يطالبون بعدم تخليها عن هذا الدور، لأن إلغاء دورها الاقتصادي يؤدي إلى ما شهدناه من كوارث اقتصادية في الوطن العربي، تمثلت في توسع الفقر والبطالة والتفاوت الطبقي بين الناس.
شهدنا، في العقدين الماضيين، أثر تغييب الدولة اقتصادياً بفعل تطبيق الوصفات النيوليبرالية، وقد كان هذا أحد أهم أسباب الانفجار الكبير خلال السنوات الست الماضية التي عايشنا فيها أثر تحوّل مطالب تغيير الأنظمة في بعض الدول إلى حروب أهلية وانفلات رهيب، يعزّزه تآكل الدولة. تقدم هذه الصورة العبرة لمن يحرص على أمن الناس وحياتهم، فيما يخص الموقف من الدولة وأدائها. كانت هشاشة الدولة العربية أساساً في تشكيل أزماتنا، وما زالت.