جون فون نيومان (Neumann) أميركي الجنسية، هنغاري المولد والنشأة المبكرة، ويعتبر من عباقرة الرياضيات الأفذاذ في القرن العشرين، فقد ساهم في كثير من العلوم الرياضية والفيزياء. ولكننا هنا بصدد الحديث عن مساهمته في نظرية اللعبة (game theory)، والتي ابتكرت مصطلح "خيار الصفر"، أو (zero option)، أي أن ما يأخذه خصمك أو غريمك أو مفاوضك يكون على حسابك.
وقد أدّى تمسك نيومان بهذه الفكرية الحدّية إلى تجميد الفكر في نظرية اللعبة، حتى جاء جون ناش (John Nash) عالم الرياضيات الفائز بجائز نوبل في الاقتصاد، والذي خرج بفكرة أن في وسع طرفي التفاوض، أو الغريمين، أن يخرجا فائزيْن، لو لجآ إلى التفاوض الذي يأخذ مصالح الطرفين بالاعتبار.
وقد تطورت أفكار جون ناش بشأن ما يسمّى "توازن ناش" إلى المثال الشهير المسمّى "معضلة المساجين" أو "prisoners dilemma"؛ وهو أن مجموعة ارتكبت جريمة سرقة، ولمّا ألقي القبض عليهم، واجهوا ثلاثة خيارات: أن يرفضوا الاعتراف بالجريمة مقابل سجن كل واحد منهم سنة على الأكثر، أو أن يعترفوا جماعياً ويذهب كل منهم إلى السجن ثلاث سنوات، أو أن يعترف واحد وأكثر منهم سراً ضد زملائه في مقابل العفو عنه، ووضع باقي زملائه في السجن سبع سنوات لكل منهم.
إذا فكّر كل منهم في تعظيم مصلحته، فالحل أمامه أن يعترف فيخرج بدون مدّة محكومية، ولكن باقي شركائه سيسجنون سبع سنوات، وإن فكر في التعاون مع شركائه، وتعاونوا معه في المقابل بإنكار الجريمة، فإن هذا هو الحل الأمثل لهم كمجموعة. ولكن، من يضمن لأي واحدٍ فيهم أنه إذا امتنع عن الاعتراف، فإن الآخرين سيلتزمون بذلك؟
وفي عصر المعلومات، وتركّزها في شركات التواصل الإلكتروني الكبرى في العالم، وهي أميركية، فإن الولايات المتحدة لها سبق وتميّز على دول كثيرة، ولقد برعت في تحليل المعلومات، وفي استخدام علم الأعصاب وعلم النفس في التأثير على مواقف الخصوم والمنافسين.
وسط هذا المناخ من العلم في نظرية اللعبة، وفي المعلومات التفصيلية عن الدول الأخرى، وفي استخدام علم النفس وعلم الأعصاب للتأثير على الآخرين، أتى دونالد ترامب رئيساً للولايات المتحدة، فبدأ في لعبة التفاوض مع كل الأطراف التي يعتقد أنها تستغل الولايات المتحدة بشكل غير متوازن، واتخذ على نفسه عهداً بتصويب الأمور.
بدأ ترامب بدول مجلس التعاون الخليجي، وأخبرها أنه يحميها من إيران، وأن عليها دفع فواتير الحماية، وهدّدها بأنه إن رفع حمايته عنها، فإن إيران سوف تحتلها خلال أيام. وقامت كل المؤسسات الأمنية والعسكرية بتضخيم الخطر الإيراني، إذ امتد نفوذها إلى اليمن والعراق، جاري السعودية، ومن ثم سورية ولبنان، وباعت أميركا دول الخليج، في المقابل، أسلحة وعتاداً وخدمات وبرمجيات ولوجستيات ومعدات إلكترونية بعشرات المليارات من الدولارات، إن لم يكن أكثر.
ولمّا أراد أن يضغط ترامب على إيران حاصرها اقتصادياً، وطلب من دول الخليج أن تزيد إنتاجها النفطي. ولذلك بقي سعر النفط منذ مطلع عام 2019 متذبذباً حوالي السبعين دولاراً (برنت) وهبط الأسبوع الحالي إلى أقل من 69 دولاراً.
وسوف يبقى يتذبذب حول هذا السعر، ليس بسبب المناخ المتأزم في منطقة الخليج، ولكن بسبب تراجع الطلب العالمي، لأن معدلات النمو في الصين والهند وأوروبا تعطي دلائل على أن الإنجاز الكلي لهذه الاقتصادات في تراجع واضح.
ولمّا صارت إيران العدو الأول، صار التفاهم مع إسرائيل حفاظاً على حياة الأنظمة أمراً مقبولاً لدول الخليج، إذ فتحت بعضها أبوابها لأسوأ نظام إسرائيلي منذ عام 1948، وتعاملت معه بصفته سيعينها مع الأميركان في محاصرة إيران وتحييد نفوذها وآثارها السلبية على دول الخليج وأنظمتها.
وقد أحدث ترامب تشويشاً في العلاقة مع المكسيك وكندا، وتصرّف وكأنه يطبق معهما خيار الصفر. ولكنه لما ظفر بقبولهما إعادة التفاوض على اتفاقية "نافتا" أو منطقة التجارة الحرة في شمال أميركا، خرج معهما بخيارٍ أقرب إلى حل أزمة المساجين. لقد قدمت كل من كندا والمكسيك تنازلاتٍ طفيفة، وقبلتا بعودة بعض المصانع الموجودة فيهما إلى الولايات المتحدة، ولكنهما في المقابل حافظتا على سوقهما الأكبر.
وها هو الرئيس الأميركي ترامب يفعل الشيء نفسه مع اليابان، وسيكرّر الأمر ذاته مع كوريا الجنوبية. وسيخرج بمعادلة مع هذين البلدين، تمكّنه من القول إنه نجح في طلب منافع إضافية للشعب الأميركي، من دون أن يجحف بحقوق شركائه، بل أرجع التوازن إلى تلك العلاقات، ما سيجعلها أكثر ديمومة واستمراراً واستقراراً.
وبقي أمامه الصين. فهل سينجح في الصين؟
في ظني، الأمر أكثر تعقيداً. وهو يريد أن يضمن استمرار التفوق الأميركي في الأسواق العالمية. ولربما لن يكون الأمر عليه سهلاً، إذ إن أميركا داخلة في ثلاث حروب مع الصين، التجارية والتكنولوجية والسياسية، خصوصاً أن تمدّد الصين في بحر الصين على حساب أمن دول، مثل اليابان وفيتنام وكوريا الجنوبية، بات يؤرق هذه الدول.
ومن هنا، ساهمت الصين وكوريا الشمالية في تسريع التفاهم بين أميركا من ناحية، واليابان وكوريا الجنوبية من ناحية أخرى.
أما أوروبا والولايات المتحدة فهي قضية معقدة. إن تأزم الوصول حول "بريكست"، وما أدى إليه من تعقيدات داخل المملكة المتحدة، والضغط الأميركي على ألمانيا وفرنسا المؤسستين للاتحاد الأوروبي، تجعل الأمور مفتوحةً على احتمالات كثيرة.
ولكن من الواضح أن روسيا، بوضعها الاقتصادي غير السليم، ربما تجد نفسها قريباً مضطرة للاختيار بين أن تكون أوروبية أو تتحالف مع الولايات المتحدة، أو مع الصين. وسنرى أن إسرائيل ستلعب في هذا الميدان، ومن ورائها رؤوس الأموال المساندة لها في العالم.
ما زالت نظرية اللعبة، بأبعادها وتجلياتها المتطورة، هي الاسم الحقيقي لما كان يدعى "لعبة الأمم".