يشهد الملف الليبي عودة للنشاط الدبلوماسي البريطاني بعد قرابة شهرين من الجمود العسكري في محيط سرت والجفرة، وتوقف قوات حكومة الوفاق عن التقدم عسكرياً في المنطقتين، نتيجة انخراط العديد من الأطراف في كواليس الأزمة الليبية، التي باتت تتنقل بين أكثر من عاصمة حول العالم.
وكشفت مصادر ليبية متطابقة، حكومية من طرابلس وبرلمانية من طبرق، بدء اتصالات بريطانية مكثفة مع طرفي الصراع، تزامناً مع اتصالات أخرى من أبرز الأطراف الإقليمية الداعمة لطرفي الصراع في البلاد، بهدف رأب الصدع المتنامي بينها، وللحد من إمكانية انجراف منطقة وسط البلاد، المشرفة على قطاع الطاقة، إلى أتون حرب واسعة.
ووسط تجاوب الأطراف الليبية، بحسب المصادر، مع المساعي البريطانية التي تبدو متساوقة مع السعي الأميركي لوقف التصعيد العسكري في منطقة سرت، شكلت الأطراف الإقليمية الداعمة عامل ضغط مساعد على الأطراف الليبية من أجل القبول بخلق منطقة منزوعة السلاح في وسط البلاد، وتباعد الأطراف عن تخوم سرت والجفرة بمسافة كافية.
وأكدت المصادر ذاتها أن طرفي القتال، قوات "الوفاق" الموجودة على تخوم سرت، ومليشيات حفتر الموجودة داخل سرت برفقة أعداد من مرتزقة "فاغنر"، ستبدأ قريباً بالتراجع عن المنطقتين لمسافات ستتفق عليها اللجنة العسكرية الليبية المشتركة (5 + 5)، التي ستعود للحوار المشترك قريباً تحت رعاية أممية.
وحتى الآن، لم تبرز أي تصريحات أو مواقف بريطانية معلنة بشأن مستجدات الأوضاع الليبية، باستثناء تأكيد البعثة الأممية للدعم البريطاني لدورها في ليبيا، خلال لقاء جمع ممثلة الأمين العام للأمم المتحدة في ليبيا بالإنابة ستيفاني وليامز، منتصف يوليو/ تموز الماضي، مع وزير الدولة البريطاني للشرق الأوسط وشمال أفريقيا جايمس كليفرلي، الذي شدد على ضرورة إيجاد حل سياسي شامل في ليبيا من خلال البعثة. والأسبوع ما قبل الماضي، شدد كيلفرلي، خلال جلسة إحاطة في مجلس الأمن بشأن الوضع في ليبيا، على رفض بلاده للتدخلات العسكرية الأجنبية في ليبيا، معتبراً أن الفرصة لا تزال سانحة لتحقيق تقدم حقيقي وتغيير المسار المضطرب في البلاد.
وأوضح الوزير، خلال الإحاطة ذاتها، بأن أولى خطوات العمل يجب أن تبدأ بمشاركة الأطراف في المحادثات العسكرية (5 + 5) التي تقودها الأمم المتحدة، مضيفاً أنه "مهم الآن بشكل خاص نظراً للمخاطر الشديدة من تفاقم التصعيد حول سرت وما من سبيل غير الدخول في حوار 5 + 5، وبحسن نية، يمكن أن يجنِّب الأطراف المزيد من إراقة الدماء، ويعيد ليبيا إلى مسار التسوية السياسية".
قوة الضغط البريطاني جاءت على خلفية توحد موقفها مع واشنطن بشأن ضرورة إخلاء منطقتي سرت والجفرة من السلاح
وكشف دبلوماسي ليبي رفيع، أكد لــ"العربي الجديد" أن قوة الضغط البريطاني جاءت على خلفية توحد موقفها مع واشنطن بشأن ضرورة إخلاء منطقتي سرت والجفرة من السلاح، في الوقت الذي تعقدت فيه المسألة بين الأطراف الإقليمية والدولية الداعمة للطرفين في المنطقتين. وبحسب المصدر، فقد أتاح توقيت التدخل البريطاني متنفساً لتلك الأطراف التي لم تكن راغبة من الأصل في المواجهة العسكرية، ولا سيما الجانب التركي الداعم لحكومة الوفاق والجانب الروسي الداعم لحفتر.
ولفت الدبلوماسي إلى أن بريطانيا تمتلك أكبر استثمار في الطاقة في حوض سرت، من خلال تعاقد كبير وقّعته شركة (British Petroleum) للتنقيب عن الغاز في الحوض منذ عام 2007، بقيمة تزيد على مليار دولار، ويبدو أنه السبب الرئيس للانخراط البريطاني، ولا سيما أنه متصل بأزمة النفط المتوقف في ليبيا والصراع على الغاز في المتوسط والتصعيد العسكري الحالي في سرت.
وفيما لم تتحدث المصادر عن شمول السعي البريطاني الحديث إلى حلول بديلة للحل العسكري، وما بعد إبعاد طرفي القتال عن المنطقتين، اعتبر المحلل السياسي الليبي مروان ذويب الدور البريطاني الحالي مرتبطاً بحماية مصالح بريطانيا في ليبيا، واعترافاً منها بضرورة أن يكون الحل السياسي ضامناً لمصالح العديد من الأطراف المتدخلة في البلاد.
وقال ذويب، في حديثه لــ"العربي الجديد"، إن "عودة الدور الأممي، من خلال إعادة تنشيط دور اللجنة العسكرية المشتركة، أمر مقنع، فكيف يكون هناك حديث عن حلول سياسية دون وقف القتال على أسس مقبولة وواضحة"؟ مشيراً إلى أن المساعي بشأن الحل السياسي، وآخرها إحياء اتفاق الصخيرات، "سعي موازٍ في أحسن الأحوال، لكنه بعيد التأثير في الأوضاع الحالية المحتكمة للسلاح".
وبينما لا يرى ذويب في الدور البريطاني سوى سعي مرحلي إلى فرض وقف إطلاق النار من خلال ممارسة ضغوط لحماية مصالحها، إلا أنّ الباحث السياسي الليبي، سعيد الجواشي، يعتبر أن الخطوة مهمة ومبنية على واقع لا يمكن معه تجاوز الأوضاع الحالية إلى مراحل تنشد حلولاً سياسية.
ولفت الجواشي، متحدثاً لــ"العربي الجديد"، إلى أن "المجتمع الدولي لا يزال مقتنعاً بتأخر دور المفاوضات السياسية، فالأمم المتحدة حتى الآن لا تزال تجمّد دورها ولم تختر مبعوثاً جديداً لها في ليبيا منذ مارس/ آذار الماضي، ما يعني قناعة دولية وأممية بعدم الجدوى عن الحديث عن حلول سياسية بسبب تعقد القضية الليبية بشكل أكثر من السابق".
ويلفت الجواشي إلى عدم استعداد الأطراف الليبية للجلوس على طاولة تفاوض، متسائلاً: "من يمثل معسكر شرق ليبيا؟ وحفتر لم يعد فاعلاً، ولم يعد داعموه السابقون يعوّلون عليه".
والأسبوع قبل الماضي، استضافت الرباط لقاءات منفصلة بين رئيس مجلس النواب المجتمع في طبرق عقيلة صالح، ورئيس المجلس الأعلى للدولة خالد المشري، بهدف مناقشة جدوى إحياء اتفاق الصخيرات الموقع بين الأطراف الليبية نهاية 2015 وإجراء تعديلات عليه ليكون مرجعية لعملية سياسية جديدة، لكنها توقفت فجأةً، إثر أنباء عن إصابة صالح بفيروس كورونا.
وأكد برلماني، لــ"العربي الجديد"، أن صالح أنهى، أمس الأربعاء، حجراً منزلياً على خلفية توقع إصابته بفيروس كورونا بعد أن تضاربت نتائج التحليلات بشأن إصابته، لكن الفحوصات الأخيرة أكدت خلوه منه.
ورغم ذلك، لا يعتبر الجواشي صالح ممثلاً سياسياً مقبولاً لكل الأطياف في شرق ليبيا، وسط عدم وجود أي شخصية سياسية أو وطنية يمكن أن يُجمع عليها زعماء القبائل في المنطقة، مؤكداً أن "الحديث عن أي عملية سياسية سيكون بعيداً عن مستجدات الواقع الذي لا يزال قريباً من نشاط الميدان العسكري".
ومن جانب آخر، يرى الجواشي أن "النجاح البريطاني في إقناع حكومة الوفاق وحليفها التركي سيواجه صعوبة تتمثل بإصرار قادة قوات الحكومة على متابعة الحملة العسكرية للسيطرة على سرت، وفي حال قبولهم بالتراجع لبضعة كيلومترات، فإن ذلك يتطلب وجود ضمانات لا يبدو أن بريطانيا تملكها في ظل الوجود الروسي".