نسور منتوفة الريش

26 اغسطس 2015
همام السيد / سورية
+ الخط -

عند الساعة السادسة صباحاً، تستيقظت المدينة على قدم وساق وتبدأ حركاتها الأولى. رذاذٌ خفيفٌ يُبَيّن صورة الأشياء ويخلق جواً سِحرياً. والأشخاص الذين يجوبون المدينة في هذه الساعة كأنهم مصنعون من مادة أخرى، وينتمون إلى أسلوب حياتي طيفي.

والمُتَرهّبات يتجرجرن في تثاقلٍ إلى غاية أن يختفين في شرفات الكنائس. واللّيليون، الذين أنهكهم الليل، يعودون إلى منازلهم ملفوفين في ملافعهم وفي حزنهم. ويبدأ الزَبالون من شارع باردو، مسلّحين بالمكانس والعربات، جولة التنظيف المشؤومة. في هذه الساعة أيضاً يُشاهد العمّال يتوجهون نحو الجماز الكهربائي، ورجال شرطة يتثاءبون متقابلين والأشجار، وبائعو صحف متجولين قد صاروا أرجوانيين من البرد، وخادمات يُخرجن صناديق القمامة. في هذه الساعة، وفي آخر الأمر، وكنوع من إشارة مكتنفة بالأسرار، تظهر الجوارحُ الضّارية.

في هذه الساعة يلبس الشيخ سانتوس الساق الخشبية، وبينما هو جالس في فراش النوم يبدأ بالجعجعة:

- استيقظا من النوم! إِفْرايينْ، إِنْريكِي! حان الوقتُ!

يجري  الصبيان نحو ترع الحوش الكبير وهما يفركان عينيهما المرْموصتين. مع هدوء الليل، ركد الماء وفي عمقه الشفاف يُرى نُمو العشب وانسياب مهذبات رشيقة. وبعد تشطيف الوجه يأخذ كل واحد سطله ثم ينزل إلى الشارع. وفي هذه الأثناء، يقترب الشيخ سائطسْ من الخِنْزارة، وبعصاه الطويلة يأخذ بالضرب على ظهر الخنزير المتمرّغ بين النفايات.

- ما يزال ينقصك بعض الشيء أيها الخنزير! لكن انتظرْ لا غير، سيحينُ دورك.

كان إفْرَايِينْ وإنْريكِي يتأخران في طريق العودة، إما بتسلق الأشجار لقطف العُلّيق، وإما في جمع الحجارة من تلك المسنونات التي تخترق الهواء وتُحدث جرحاً في الظهر، ويصلان إلى ميدانهما والصبح لم يطلع بعدُ، عبر شارع طويل مزين بمنازل أنيقة يؤدّي إلى السور البحري.

لم يكونا الوحيدين. ففي الأحواش الكبيرة وفي حارات الضواحي الأخرى، كأنَّ أحداً ما يدقّ ناقوس الإنذار فيسْتيقظ الكثير منهم. بعضهم يحمل دلاءً، وآخرون صناديق من الورق المقوّى، وأحياناً صحيفة قديمة تفي بالغرض. من دون معرفة بعضهم بعضاً، كانوا يشكّلون نوعاً من منظمةٍ سرّيةٍ مُشتّتة في جميع أنحاء المدينة. منهم من يجوس خلال المباني العمومية، وآخرون يختارون الحدائق أم المزابل. بما فيها الكلاب التي اكتسبت عاداتهم، وسلكت طرقهم، درسٌ علّمه إياهم البؤس بحكمة.

بعد أخذ استراحة قصيرة، يبدأ إفرايين وإنريكي عملهما. كل واحد منهما يختار رصيفاً من الشارع.  إذ يجب تفريغ صناديق القمامة المصطفة أمام الأبواب بالكامل ثم بدء عملية النبش. علبة مفاجآت دوماً هو صندوق الزبالة. فهو يحوي علب السردين، وأحذية قديمة، وقطع خبز، وجرذان ميتة، وقطناً نجساً.

بالنّسبة لهما، كل ما يهمّهما هو بقايا الطعام فقط. فباسكوال يقبل أي شيء داخل الخنزارة، وكان يفضّل الخضروات المتحلّلة قليلاً. كانت سُطَيْلةُ كل واحدٍ منهما تمتلئُ شيئاً فشيئاً  بالطّماطم العفنة، وبقطاع من الوَدك، وبمرق غريبٍ لا وجود له في أي دليل مطبخِ.

رغم ذلك، لم يكن اكتشاف شيء قيم أمراً غريباً. في أحد الأيام، عثر إفرايين على إحدى حمالات السراويل صنع بها مقلاعاً. وفي مناسبة أخرى، عثر على ثمرة كُمَّثْرَى لا بأس بها التهمها في الحين. أما إنريكي، فحظه كان مع عُليبات الإساءِ، والمقابض اللامعة، وفرش الأسنان المستعملة، وما شابه ذلك من الأشياء التي يجمعها بشراهة.

بعد عملية اختيار مضنية، يعيدان القمامة إلى الصندوق ويرتميان على الموالي. لا ينبغي أن يتأخّرا كثيراً؛ لأن العدوّ دوماً بالمرصاد. في بعض الأحيان، يفاجآن بالخادِمات فيجدان نفسيهما مضطرين إلى أن يطلقا ساقيهما للريح مُخلّفان وراءهما الغنيمة مبعثرةً. لكن، في الغالب، عربة النظافة العمومية هي من كانت تظهرُ ومن ثمّ يذهب اليومُ سُدى.

عندما كانت الشمس تلوّح فوق الأكمات، كان وقت الفجر يعلن عن نهايته. يتبدّد السَّديم، والرّاهبات مستغرقات في النّشوة، وينام اللّيليون، وبائعو الصّحف المتجوّلينَ وزّعوا الجرائد، والعمّال يهمون بتسلّق السّقالات. ويبدّد الضّوء العالم السّحري للفجر. وتعود الجوارح الضّارية إلى عُشّها.

كان السيد سانتوس ينتظرهما مع القهوة محضرة.

- لنرى، ماذا جلبتما لي؟

يشمشم بين السّطول فإذا كان الزّاد وافياً يعلق دائماً التعليق نفسه:

- سينعم باسكوال بوليمة كبيرة اليوم.

لكن في غالب الأحيان ما كان ينفجر قائلاً:
-أبْلهان! ماذا فعلتما اليوم؟ أكيد كنتما تلعبان! سيموت باسكوال جوعاً!

دوما يفرّان نحو العريش، وأُذنيهما تحترقان من جراء الضّربات على القفا، بينما الشيخ يتجرجر إلى غاية الخنزارة. فيبدأ الخنزير من أعماق مركنه بالنخير، فيرمى له السيد سانتوس الطعام.

- باسكوالي المسكين! ستظلّ اليوم جوعاناً بسبب هذين الوغدين. هما لا يحبانك مثلما أحبك أنا. يجب أن يُضْربا ضرباً مُبرحاً حتى يتعلّما!

مع حلول فصل الشتاء، كان الخنزير قد تحوّل إلى ما يشبه وحشاً لا يشبع. كل شيءٍ كان يبدو له قليلاً، وكان السيد سانتوس ينتقم من حفيديه لجوع الحيوان. فكان يُجبرهما على الاستيقاظ في وقتٍ أبكر من ذي قبل، لاجتياح مناطق الآخرين بحثاً عن مزيد من النفايات. في الأخير أرغمهما على أن يتوجّها إلى غاية المزبلة الموجودة على شفير البحر.

- هناك ستعثران على المزيد من الأشياء. بما في ذلك سيكون سهلاً، لأن  كل شيء متراكم هناك.

ذات أحد، وصل إفرايين وإنريكي إلى الوهدة. كانت عربات النّظافة العمومية تقتصّ موضع أثر من الأَرض، وتُفرغ النفايات على منحدرٍ صخري. كانت المزبلة تظهر من السّد البحري كنوع من جرفٍ مظلمٍ يصعد منه الدّخان، وحيث الجوارح والكلاب تتنقّل كالنمل.

من مسافةٍ بعيدة، رشق الصّبيان بالحجارة لإفزاع أعدائهما، فانسحب كلبٌ يعوي. وعندما كانا على مقربة، شمّا رائحة مقزّزة تسربت إلى رئتيْهما. كانت أقدامهما تارةً تغرق في كومةٍ من الرّيش، وتارةً من الفضلات، وتارةً أخرى في مواد متحللة أو محروقة. بدفن الأيدي، يبدآن عملية الاكتشاف.

في بعض الخطرات، كانا يكتشفان، تحت صحيفةٍ مصفرةٍ، جيفةً التُهم نصفها. وفي المنحدرات القريبة، جوارح تتجسّسُ على أحرّ من الجمر، وبعضها يدنو مُتقافزاً من حجر إلى حجر، كما لو أنها تريد حصارهما. كان إفرايين يصيح ليخيفها وصيحاته أحدثت دويّاً تحرّر على إثرها الحصى ليتدحرج نحو البحر. وبعد ساعة من العمل، عادا إلى الزريبة مع سطول ملأى بالزبالة.

- لله دركما! -هتف السيد سانتوس، يجب معاودة هذا مرتين أو ثلاث خلال كل أسبوع.
ومنذ ذلك الحين، كان إفرايين وإنريكي، في أيام الأربعاء والآحاد، يهرولان إلى المزبلة. وسرعان ما صارا جزءًا لا يتجزأ من الحيوانات الغريبة لهذه الأماكن، والجوارح، المعتادة على وجودهما، كانت تبحث عن قوتها معهما جنباً إلى جنب؛ تنعب، ترفرف، تنبش بمناقيرها الصّفراء، كما لو أنها تساعدهما على اكتشاف الطريق إلى القذارة الثمينة.

حدث أن إفرايين، عندما كانا عائدين من إحدى هذه الرحلات الاستكشافية، أحسّ بألم في أخمص قدمه. سببت له زجاجة جرحاً بسيطاً. وفي اليوم الموالي، كانت قد تورّمت قدمه، رغم ذلك واصل عمله. عندما عادا بالكاد كان يستطيع المشي، لكن السيد سانتوس لم يلاحظ ذلك، إذ كان لديه زائر. كان برفقة رجلٍ سمين، يداه مُلطختان بالدم، أتى ليلقي نظرة على الخنزارة.

- سآتي إلى هنا في غضون عشرين أو ثلاثين يوماً -قال الرّجل- حينَذاك ربما يكون جاهزاً.
وعندما رحل، احْمرّت عينا السيد سانتوس لهباً.

- إلى العملْ! إلى العملْ! من الآن فصاعداً يجب زيادة نصيب باسكوال من الطعام! صارت الصفقة على أحسن ما يرام.

رغم ذلك، في صباح اليوم التالي، عندما أيقظ السيد سانتوس حفيديه، لم يقدر إفرايين على النهوض.

- لديه جرح في القدم -شرح إنريكي- البارحة اخترقته زجاجة.

فحصَ السيد سانتوس قدم حفيده. كان الالتهاب قد بدأ.

- هذا هراء! فليغسل قدمه في السقاية وليلفّها بخرقة.
- لكنها تؤلمه! قال إنريكي متدخلاً، لا يستطيع المشي جيداً.

تأمل السيد سانتوس لحظةً. كان صوت قباع باسكوال يصل من الخنزارة.
- وأنا! متسائلاً وهو يضرب بكفه على السّاق الخشبية، ألا تضرني ساقي؟ وعمري سبعون عاماً وأعمل.. كفى حيلاً!

خرج إفرايين إلى الشارع وسطله متكئاً على كتف شقيقه. وبعد نصف ساعة، عادا بالسطول شبه فارغة.

- لم يتحمل أكثر! قال إنريكي لجدّه، صار إفرايين شبه أعرج.
تفرّس الشيخ سانتوس حفيديه كمن يفكّر في قرار.
-حسناً! حسناً! قال وهو يَخْرِش لحيته المشتّتة، ثم ساق إفرايين نحو الحجرة مُمْسكاً إياه من رقبته - المرضى إلى السرير! ليتعفّنوا في الفراش! أما أنت، فستقوم بمَهَمّة شقيقك! اذْهب حالاً إلى المزبلة!

حوالي الظهيرة عاد إنريكي بالدلاء ملآنة. كان يتبعه ضيف غريب، كلب هزيل ونصف أجرب.
- وجدته في المزبلة -شرح  إنريكي- ثم تبعني.
أمسك السيد سانتوس بالعصا.

- فاه آخر في الزريبة!

رفع إنريكي الكلب إلى صدره ثم فَرَّ نحو الباب.

- لا تفعل له شيئاً، يا جدي! أنا سأعطيه من نصيبي في الطعام.

اقترب السيد سانتوس، اقترب مغرقًا ساقه الخشبية في الوحل.

- لا للكلاب هنا! لدي ما يكفيني معكما!

فتح إنريكي باب الشّارع.

- إذا هو ذهب، أنا أيضاً ذاهب.

توقّف الجد. فاستغل إنريكي الوضعية ليصرّ:
لا يأكل شيئاً تقريباً.. انظرْ كيف هو هزيل. إضافة إلى أنّه سيساعدني بينما إفراين سقيم. يعرف المزبلة جيداً وله منخر كَيِّس لشمشمة النّفايات.

فكر السيد سانتوس، ناظراً نحو السماء حيث كان يَتكدّسُ الرّذاذ. دون أن ينبس ببنت شفة، رمى العصا، أخذ الدّلاء ثم خرج يعرج إلى غاية الخنزارة.

- ابتسم إنريكي من الفرحة، ثم ركض وصديقه مَضْمومٌ إلى قلبه إلى حيث شقيقه.

- باسكوالْ! باسكوال! يا باسكوال! الجد يغنّي.

- أنت صار اسمك بيدرو. قال إنريكي مُداعباً رأس كلبه ودخل حيث إفرايين.

تَحثْرفَتْ سعادته: كان إفرايين غارقاً في العرق، يتقّلب من الألم فوق الفراش. كانت قدمه متورّمة، كما لو أنها من المطاط ومملوؤةً بالهواء. والأصابع فقدت شكلها تقريباً.
- لقد أتيْتك بهذه الهديّة، انظر، قال مُظْهراً الكلب. اسمه بيِدْرُو، إنّه لك، ليؤنسك.. عندما أذهب إلى المزبلة سأتركه لك وسيلعب كلاكما اليوم كله. وستعلّمه جلب الحجارة في الفم.
- والجدّ؟ سأل إفرايين مادّاً يده نحو الحيوان.
- الجد لم يقل شيئاً، تَنهّدَ إنريكي.
نَظَر كلاهما نحو الباب. كانت السماء قد بدأت تَرِذُّ. كان صوت الجد:
-باسكوال! باسكوال! يا باسكوال!

في تلك الليلة عَيْنها، اكْتمل البدر. اضطرب بال كلا الحفيدين؛ لأن الجد في هذه الفترة يصير صعب المراس. منذ انصباب العشية، رأياه يجوب الزريبة، يتحَدّث لوحده، ويضرب العريش بالعصا. في بعض الأحيان، كان يقترب من الحُجرة، يُلقي نظرة إلى داخلها، وحين كان يرى حفيديْه ساكتين، كان يبزُق بُزاقاً مشحوناً بالحقد. كان بيدرو يخاف منه وكلما رآه تَكَبْكَبَ وبَقيَ بلا حراك كصخرة.

- قذارة، لا شيء غير القذارة! أمضى الجد اللّيل كله يكررها، وهو ينظر إلى القمر.
في صباح اليوم التالي، غَشِيَ إنريكي الزُّكام . الشيخ، الذي شعر به يعطس في الصّباح الباكر، لم يقل شيْئاً. مع ذلك، تَوجّس في داخله كارثة على وشك الحدوث. إذا كان إنريكي مريضاً، فمن ذا الذي سيعتني بباسكوال؟ كانت شراهة الناخر تنمو وبدانته. في فترة ما بعد الزّوال، كان يَقْبَعُ ومنخره مدفون في الحَمَأ. حتى أنّهم أتوْا من زريبة نِمِيسْيُو، التي تقع على بعدٍ قريب، للتّشكي.

في اليوم الموالي، حدث ما لا يمكن تفاديه: لم يقدر إنريكي على النهوض. سعل طوال الليل وفَاجَأَهُ الصُّبْحُ يرتجف، ومحروق بالحمّى.

- أنت أيضا؟ سأل الجد.

أظهر إنريكي صدره، صدره الذي كان يزفر. خرج الجد من الحجرة هائجاً، ثم عاد بعد خمس دقائق.

- إنه لأمرٌ سيّئ خداعي بهذه الطريقة! ينوح. تَغُشّانني لأنّني لا أستطيع المشي. تعرفان جيداً أنّي شيخٌ، وأني أعرج. بعبارة أخرى، سأرسلكما إلى الجحيم، وسأعتني أنا لوحدي بباسكوال!

استيقظ إفرايين متذمّراً وبدأ  إنريكي بالسّعال.

- لكن لا يهم! أنا سأهتمّ به. أنتما لستما سوى قمامة، قمامة لا غير! وحشان ضاريان ومسكينان! سوف تريان كيف سأتمّيز عليكما. الجدّ ما يزال قوياً. لكن هذا هو، اليوم لا طعام لكما! لن يكون هناك طعام حتى تنهضا وتعملا!

رأياه عبر العتبة يحمل السّطول في الهواء وينقلب في الشارع. عاد بعد نصف ساعةٍ خائر القوّة. لم تترك له عربة النّظافة العمومية المجال؛ لأنّه لا يملك تلك الخفة التي لدى حفيديه. إضافة إلى أن الكلاب كانت تريد أن تعضّه.

-قطعتا قذارة! إنّه في علمكما، ستبقيان بلا طعام إلى غاية أن تعملا!

حاول في اليوم التالي أن يعاود العملية لكنّه اسْتسلم. ما عادت ساقه الخشبية معتادة على الطرق المُزَفَّتَة، والأرصفة الصلبة، وكلّما خطا خُطوةً كانت كطعنةِ رمحٍ في أُرْبيَّته. في فترة ما قبل أن ترخي الشمس أنوارها لليوم الثالث، بقي منهاراً في فراش نومه، مفتور الهمّة إلا من السِّبابِ.

-إذا مات جوعاً -صرخ- فسيكون بسببكما!

منذْ تلك اللّحظة، بدأت أيّام كُلّها غَمّ، لا نهاية لها. كان الثلاثة يقضون اليوم مُتحبِّسينَ في الحجرة، صامتين، مُعانين نوعاً من حْبسٍ قَسْريّ. كان إفرايين يتقلّب بلا هوادة، وإنريكي يسعل. وكان بيدرو، بعد قيامه بجولةٍ  في الفِناء، ينهض ويعود مع حجر في فمه ويُودِعه في أيدي سيّدَيْه.

كان السيّد سانتوس، نصف نائمٍ، يلعب بساقه الخشبيّة ويرميهما بنظرات شرسة. عند الظهيرة، كان يَتجَرْجَر إلى غاية ركن حيث كانت تنمو الخضراوات ثم يُعِدّ غذاءه، ويلتهمه سراً. وفي بعض المَرَّات، كان يُلْقي على سرير حفيديه خَسّةً أو جزرةً غير ناضجةٍ، بُغْيَة إثارة شهيتهما اعتقاداً منه أنه هكذا يجعل من عقوبته أشد.

لم تعد لإفرايين القوة ليتذمّر. وكان إنريكي يُحسّ بخوف غريب، لا غير، ينمو في قلبه، وعند النّظر في عيون جدّه، كان يعتقد أنّه لا يعرفه، كما لو أنهما فقدا فيه الحِسّ الإنسانيّ. في اللّيل، عندما كانت تُقْمر، كان يأخذ بيدرو بين يديه ويعصره بحنانٍ حتّى يَزْحَر. في هذه السّاعة، يبدأ النّاخر بالقبوع والجدّ بالتَّغضُّبِ كما لو أنّهما يخنقانه.

وفي أحيان أخرى، كان يَعصِبُ ساقه الخشبيّة ويخرج إلى الزّريبة. وعلى ضوء القمر، كان يراه إنريكي يذهب عشر مرات من الخنزارة إلى الحديقة، رافعاً قبضتيه، ومتعثّراً في كل ما يعترض طريقه. وفي الأخير يعود إلى حجرته ويبقى مُحملِقاً فيهما، كأنّه يُحمّلهما مسؤوليّة مَخْمَصَة باسكوال.

آخر ليلةٍ من امتلاء القمر، كان باسكوال يُصدر قبعات محضة. وقرّ في مسْمع  إنريكي أن الخنازير، عندما تكون جائعة، تُجنّ كما يُجَنّ البشر. بقي الجد سهراناً، وحتى المصباح لم يطفئه.

هذه المرّة لم يخرج إلى الزّريبة، ولم يجْتنِ شَتْماً في دواخل نفسه. كان وهو مُدَّثِّر في فراشه يَرْنُو رُنُوّاً في الباب. بدا وكأنّه يُكتِّل في داخله غضباً عتيقا جدّاً، يلاعبه، ويعد نفسه لإطلاقه. وعندما تعالت مُلْبِسَةُ الدُّجَى فوق التّلال، فَغَر فاه، وأبقى تجويفه الأسود ناحية حفيديه ثم أطلق زَمْجَرته:

- انْهضا، انْهضا، انْهضا! فبدأت الضّربات تمطر. استيقظا أيُّها الكسولان! إلى متى سنبقى على هذه الحال؟ هذا الأمر انْتهى! فلْتقفا!

انفجر إفرايين باكياً، ونهض إنريكي مُلتَطِماً مع الجدار. عينا الجدّ بدتا وكأنّه أخذتاه حتى أفقدتاه الحسّ بالضّربات. كان يرى ارْتفاع العصا ومَيْلها على رأسه كما لو أنّها عَصاً من الورق المقوّى. في النّهاية تمكّن من أن يقوم بردّة فعل.

- ليس إفرايين! لا ذنب له! اتْرُكني أنا وحدي، أنا سأخرج، وأنا سأذهب إلى المزبلة!

سيطر الجدّ على نفسه لاهثاً. استغرق كثيراً ليسترجع أنفاسه.

-حالاً.. إلى المزبلة.. احملْ السَّطلين، أربعة سطول...
تنحّى إنريكي، حمل السّطول وابتعد إلى الممر. عياء الجوع والنّقاهة جعلاه يتعثّر. وعندما فتح باب الزّريبة، أراد بيدرو أن يتبعه.

- أنت لا. ابق هنا لتعتني بإفرايين.

نزل إلى الشّارع يتنفّس ملْئ رئتيه هواء الصّباح. أكل في الطّريق العُشْب، وكان على وشك أن يَمضغ التُّراب. كان يرى كل شيْءٍ من خلال ضباب سحريّ. جعل منه الضّعف خفيفاً، هوائيّاً: كان يطير كعصفور تقريباً. أحسّ بنفسه في المزبلة بُغاثة أخرى بين البِغْثان. رجع عندما امتلأت السّطول.
كانت الرّاهبات، واللّيليون، ومُوزّعو الصُّحف الحُفاتْ، وكلّ إفرازات الفجر قد بدأت تنتشر في المدينة. كان إنريكي، العائد إلى عالمه، يتمشَّى سعيداً بينهم، في عالمه عالم الكلاب والأشباح، الذي أدركه بزوغ الفجر.

عند ولوجه الزّريبة، أحسّ بهواءٍ ينقبض منه الصّدر، متين، أرغمه على التّوقف. كان كما لو أن هناك، في السّاكِفِ، ينتهي عالم ويبدأ آخر مصنوعُ من الصّلصال، والزّمجرة، ومن معاقبات غير معقولة. رغم ذلك، الغريب أن هذه المرة كان يحكم الحوش الكبير صمت مشحون بأمارات مُنذرة، كما لو أن كلّ العنف في هدوءٍ أوشكت عاصفته.
كان الجدّ، الواقف في مكان قَصِيّ من الخِنْزارة، ينظر نحو الدّاخل. كان يبدو كشجرة تنمو من ساقه الخشبيّة. أصدر إنريكي ضجيجاً، لكن الجدّ لم يتحرّك.

- ها هي ذي السّطول!

أدار له السيد سانتوس ظهره وبقيَ ساكناً. ترك إنريكي السّطول وجرى متوجِّساً إلى الحجرة. بمجرّد ما رآه إفرايين بدأ يئنّ:

- بيدرو! بيدرو!
- ماذا يحدث؟
- عضّ بيدرو الجد. أخذ الجد العصا، وبعد ذلك شعرت به يعوي.

خرج إنريكي من الحجرة.

-بيدرو، تعال إلى هنا! أين أنت، بيدرو؟

لم يُجبه أحد. اسْتمرّ الجد بلا حراك، ينظر إلى الجدار. كان لدى إنريكي إحساس سيّئ. وبسرعة اقترب من الشيخ.

- أين هو بيدرو؟

انتقلت نظرته إلى الخِنزارة. كان باسكوال يَنْهَشُ شيْئاً ما وسط الوحل. كانت ما تزال أرجل وذيل الكلب متبقيّة.

-لا!  صاح إنريكي مغطياً عَيْنيه. لا، لا! ومن خلال الدّموع، بحث عن نظرة الجَدّ. هذا الأخير تجنّبها وهو يَلْتَفّ بخساسةٍ حول ساقه الخشبّية. بدأ إنريكي يَتَناقزُ من حواليه، ويحترق في قميصه، ويصرخ، ويُفَدْفِدُ، محاولاً النّظر في عينيه، وأن يجد جواباً.

- لماذا فعلت هذا؟ لماذا؟

لم يكن الجدّ يُجيب. في الأخير، فاقداً الصّبر، صفع حفيده صفعةً جعلته يدور في الأرض. ومن هناك لاحظ إنريكي الجدّ، مُنتصباً كعملاق، وهو يرى بإلحاح وليمة باسكوال. وبمدّ يده وجد العصا الملطّخة الطَّرْف دماً. بها وقف على أصابع قدميه واقترب من الشّيخ.
- اسْتدرْ! -صاح- استدرْ!

وعندما استدار السيّد سانتوس، لمح العصا تخترق الهواء وتنفجر في وجنته.
- خُذْ! - صرخ إنريكي ورفع يده من جديد. لكن فجأةً توقّف، خائفاً مما كان يفعله، رمى العصا على مقربة منه، ونظر نحو الجد شبَه نادمٍ. تراجع الجد خطوة، مُمْسكاً وجهه، فلمست ساقه الخشبية تربةَ خَضِلَة، انْزَلق، ووقع على ظهره في الخِنْزارة مُطلقاً صرخة مدوية.

تراجع إنريكي بِضْع خطوات. في أوّل الأمر، أرهف سمعه، لكن لم يكن يسمع أيُّ ضجيج. وشيئا فشيئاً، بدأ يقترب. كان الجدّ، بالسّاق الخشبيّة المكسورة، مُنطرحاً على ظهره في الحَمْأَة.

كان فاه فاغراً وعينياه تبحثان عن باسكوال، الذّي كان قد التجأ إلى زاويّة يُشَمْشِمُ في ريبة الوحل. انْسحب إنريكي، بالحذر نفسه الذي اقترب به. ربما تمكّن الجد من لمحه، ثمّ بينما كان يهمّ بالجري ناحيّة الحجرة، بدا له كأنّه يناديه باسْمه، بنبرة حنونة لم يسمعها أبداً.

- تعال إليّ، إنريكي، تعال إليّ!
- حالاً! صاح إنريكي، وهرع نحو أخيه - إفرايين! سقط الجدّ في الخِنْزارة! علينا أن نذهب من هنا!
- إلى أين؟ سأله إفرايين.
- إلى أيّ مكان، إلى المزبلة، حيث يمكننا أن نأكل شيئاً، حيث الجوارح الضارية!
- لا أستطيع الوقوف!

أخذ إنريكي شقيقه بكلتا يديه وضَمَّه إلى صدره. تضامّا حتى صارا شخصاً واحداً وعبرا بتؤدة الزّريبة. وعندما فتحا البوابّة الكبيرة المؤدّية إلى الشّارع، انْتبلَ نَبْلَهُمَا إلى أن النّهار قد تعالى وأنّ المدينة، صاحيّة وحيّة، وستفتح أمامهما فكّها الضّخم.
ومن الخنزارة، كان يصل صوت معركة.


* Julio Ramón Ribeyro كاتب قصة من البيرو (1929-1994)

** ترجمة عن الاسبانية محسن بن دعموش

دلالات
المساهمون