تصريحٌ لممثل مصري يُثير ضجّة في بلدٍ يعاني مصائب كثيرة أهمّ وأعنف وأخطر. قولٌ له يتحوّل، مع تحريفٍ مقصود أو غير مقصود، إلى رأي رجعيّ يتطلّب ردوداً قاسية عليه. تعبيرٌ عن موقفٍ يستدعي، عند أناسٍ مختلفين، فيلماً يتناول ـ بسخرية كوميدية مبسّطة وهادئة ـ التطوّر السلبيّ للموضوع نفسه في تاريخ السينما المصرية. ردودٌ على الممثل يُقابلها هجومٌ على الفيلم. نزاعٌ في غير محلّه. سجالٌ يكشف بؤس الاجتماع والوعي، وتنامي سلطة "فيسبوك" على كلّ ما عداه.
الحكاية بسيطة، لكنّ تداعياتها مُثيرة لنقاشٍ منبثق من انفصامٍ بين واقع مُزرٍ وموضوع عادي. انفصام يوحي كأنّ إثارة حملاتٍ على موضوع عادي تلهي أناساً عن واقع مُزرٍ. هذا دأب سلطات تتحكّم ببلدان وأناسٍ ومجتمعات، مانعة عنهم وعنها حقوقاً وحاجات لمصالحها الخاصّة. هذا يحصل في مصر، وفي لبنان أيضاً، وإنْ بشكلٍ مختلفٍ. الدولة البوليسية تقوى في لبنان، ولعلّها تتماهى بالدولة البوليسية في مصر.
يوسف الشريف ممثل مصري يقول إنّه رافضٌ لتأدية "مَشَاهد ساخنة" في أفلامٍ ومسلسلات. يُترجِم البعض "مَشَاهد ساخنة" إلى "ملامسة النساء"، كما يقول الممثل لاحقاً، مُشيراً إلى عدم استخدامه تعبير "ملامسة النساء". تُثار ضجّة. مخرجون وممثلون يهاجمونه، وأناسٌ كثيرون يستعيدون "بلاش تبوسني" (2018) لأحمد عامر، واصفين إياه بمفردات تعكس وعياً مرتبكاً لديهم. رأي الشريف عاديّ. هذه رغبته، يضعها بنداً في عقود العمل. هناك مشابهون له. المسألة بسيطة للغاية. المأزق ينبع من تحويل رأي كهذا إلى محاكمات أخلاقية. غالب الظنّ أنّ الشريف غير فاعل هذا، لكن أناساً كثيرين يُنصّبون أنفسهم قيّمين على أخلاقٍ، تبدو منعدمة في شؤون أهمّ في الحياة اليومية. "كورونا" وحده غير مذنب في انهيار بلدانٍ. هناك أنظمة فاسدة تمنع عن الناس حقوقها، ومن يُطالب بحقّ يُسجَن من دون محاكمات. ولا بأس بمناكفات جانبية كتلك، لقدرتها على إلهاء ضعاف النفوس، المتمسّكين بماورائيات يظنّون أنّها خلاصهم الأكيد.
أحمد عامر يذهب إلى التاريخ ليقرأ، بصرياً، تحوّلات سلبيّة تحصل في السينما المصرية. مُشاهدو الأفلام القديمة يُدركون التحوّلات تلك عند مشاهدتهم الجديد ومقارنتهم إياه بالقديم. المأزق كامنٌ في أنّ كثيرين، بينهم ممثلات/ ممثلون، يُدينون القديم ويتبرّأون منه ويعتبرونه جرماً يطلبون المغفرة عليه. يبدو القديم، في تصرّفات كهذه، كأنّه يُفسد أخلاقاً، أو يُخالف عيشاً، أو يُزوّر وقائع وحقائق في الاجتماع والعلاقات والسلوك. يُمكن تبرير انقلاب فنانة/ فنان على تاريخها/ تاريخه. هذا حكرٌ بها/ به. غير أنّ توجيه اتّهامات أخلاقية إلى مرحلة وأفلامٍ وعاملين في صناعة السينما، انطلاقاً من قناعاتٍ جديدة، فهذا يُسيء إلى القناعات الجديدة وأصحابها، وإلى تاريخٍ غير محصور بفردٍ، لكونه ذاكرة جماعة وصناعة واهتمامات.
يختزل "بلاش تبوسني" حكاية التبدّل. يروي، بتبسيط بصري سلس وعميق، تفاصيل مرتبطة بذاتٍ وتفكيرٍ وانفعالٍ. القبلة جزءٌ من التراث السينمائي، العربي والأجنبي. القبلة جزءٌ من الحياة اليومية لملايين الناس. العلاقات العاطفية أيضاً. أفلامٌ مصرية قديمة تلتزم معايير، وبعضها ذاهبٌ إلى أبعد من المعايير لقراءة سينمائية لانفعالات وأجساد وعلاقات. أحمد عامر يغوص في هذا. يقول وقائع من دون أحكامٍ. يسرد تفاصيل من دون إدانة. رغم هذا، يحمل "بلاش تبوسني" قدراً من إدانة مبطّنة، تبدو كأنّها تُرثي راهناً مُخادِعاً يرِثُ مرحلة خصبة بشفافية التناول السينمائي ومصداقيته لمسائل فردية كثيرة. حساسية الراهن دافعٌ لأمثال يوسف الشريف إلى إعلان موقفٍ من مَشاهد أو تفاصيل يرفضون الغوص فيها على الشاشة الكبيرة. هذا يُمكن تبريره، وإنْ كان غير مقبول. لكنّ تحويل الرفض إلى أحكامٍ، يكشف اهتراءً كبيراً في الراهن، وتراجعاً خطراً في التفكير والتواصل والعيش.
تبدّلات سلبية كتلك حاصلة في لحظة ابتكار ما يُعرف بـ"سينما المقاولات". المال السعوديّ فاعلٌ فيها، والـ"سينما" تلك (يُستحسن عدم وصفها بالسينما لكونها مجرّد أشرطة مُصوّرة بتقنية الفيديو) تحتلّ المشهد أعواماً طويلة، وتُصادر تاريخاً، وتُفتّت وقائع، وتزوّر حقائق، وتُلغي ذاكرة. هناك أفعال سعودية أخطر (شراء النيغاتيف) تُلغي تاريخاً وذاكرة، ومصريون يُشاركون بهذا لقاء المال. ورغم صعوبة الخروج من تلك المرحلة، تتمكّن السينما المصرية من مواجهة التردّي الحاصل، وإنهاض الصناعة ـ بشكلٍ أو بآخر ـ من موتها المفروض عليها، مع أنّ آثاراً منه حاضرةٌ أحياناً، وتصريح يوسف الشريف وأمثاله جزءٌ من هذا الموروث.
العالم يعيش مرحلة تخبّط. "كورونا" سببٌ أساسيّ. لكنّ عرباً عديدين باقون في أسئلة غير مُجدية، بدلاً من التنبّه إلى خرابٍ تفرضه سلطات قامعة لإخفاء حقائق وتزوير وقائع.