ندوة المركز العربي: التدخل الروسي في سورية لإثبات الذات

25 أكتوبر 2015
الندوة استضافت خبراء روسيين (العربي الجديد)
+ الخط -
بادر المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات إلى تنظيم أول ندوة عربية من نوعها بشأن التدخل العسكري الروسي في سورية، بمشاركة باحثين ودارسين وخبراء عرب، وبمساهمة خبراء روس أيضاً، واتصفت بتحليل المعطيات السياسية والميدانية المتعلقة بالقضية المطروحة، وبتعدد زوايا النظر إلى الموضوع، ما جعل النقاشات والمداولات تعرف حيوية ملحوظة، أبعدت المؤتمر عن المنحى الأكاديمي البحت، غير أنه في الوقت نفسه، لم يذهب بعيداً في اتجاه طرح المواقف ووجهات النظر السياسية، وإن تبدت هذه بشكل عام، وبالضرورة، في سياق إضاءة مختلف القضايا المتصلة بموضوع التدخل العسكري الروسي في سورية، إقليمياً ودولياً، حيث المؤثرات والتداخلات والتقاطعات مع الاعتبارات الأميركية والإيرانية والعربية عديدة. وقد اختير بحث الندوة "الدوافع والأهداف والتداعيات" عنواناً لنقاشاتها.

ومن أبرز ما توافق عليه الباحثون والمختصون والخبراء في ندوة المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات التي توزعت على أربع جلسات موسعة، أن التدخل الروسي المباشر في سورية يدخل في سياق إثبات الذات والتقدم خطوة أخرى للعب روسيا دور دولة عظمى عالمياً، كذلك يحمل أبعاد انتقام روسيا، والرئيس الروسي فلاديمير بوتين خصوصاً، من ازدراء الغرب وتعامله الفظ في الأزمة الأوكرانية. كما التقت مناقشات الندوة من المساهمين بالأوراق والمشاركين على أن روسيا تحولت فاعلاً رئيسياً، وربما الأول والمقرر، في أي مفاوضات دولية تجري بشأن سورية. وجاء في الندوة أن التدخل الروسي يسعى إلى حماية النظام السوري، ودعم مواقعه من أجل أن تفرض روسيا منطقها في أي حل دبلوماسي مستقبلي.

بشارة: مصير النظام بيد روسيا

في محاضرته الافتتاحية للندوة، "التدخل الروسي: الجيو-استراتيجية فوق الأيديولوجية، فوق كل شيء"، قال المدير العام للمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، عزمي بشارة، إن الدول الحليفة للأطراف السورية لا تتمايز في ما بينها بدرجة الأخلاقية، وإنما تنحاز لهذا الطرف، أو ذاك، لأسباب لا علاقة لها بقضية الشعب السوري نفسها، كما أن روسيا بوتين لا تحاول أن تقدم تدخلاتها العسكرية ضمن خطاب عدالة، خلافاً لنهج شيوعية الاتحاد السوفياتي في التبرير، وخلافاً لنهج أميركا حتى عصرنا هذا. فهي لا تسعَى لنشر الشيوعية ولا الديمقراطية، ولا للتبشير بدين ما، إذ اعتمدت خطاب الأمن القومي على مصالح روسيا الحيويّة. وفي هذا السياق يدخل التدخل الروسي في سورية بسعي بوتين إلى استعادة مكانة روسيا المترنحة وبناء دولة عظمى، ويبدو أنّه يمتلك استراتيجيّة، فبعد أوكرانيا اندفع إلى الأمام، ليصبح التدخل في أوكرانيا وضم القرم حقيقة ناجزة، ويفرض على الغرب الحديث معه على قضية أخرى حارقة، يحاول أن يملك مفتاحاً لحلها.

اقرأ أيضاً: تنسيق عسكري بين روسيا والأردن بشأن الجنوب السوري
 
وأوضح عزمي بشارة أن الغرب خشي من دعم الثورات العربية، بسبب الخوف من التيارات الإسلامية، وهو تخوّف يحمله الطرف الروسي أيضاً؛ مع الفرق أن الخوف الأحادي في حالة الدول الغربية جعلها تتردد في دعم الثورة في سورية، في حين أن الخوف المزدوج من الغرب والإسلاميين دفع روسيا إلى العمل بقوة مع النظام السوري حليفها. وهدف السياسة الروسيّة القريب من التدخل المباشر في سورية هو حماية نظام الأسد من الانهيار والسقوط. ولكن، وبمجرد وجود روسيا عسكرياً في سورية، لم يعد النظام سيد مصيره، ولم يعد حتى لاعباً على الساحة الدولية، إذ أصبحت روسيا المقرر في أي مفاوضات دولية تجري بشأن سورية. كما أن إنقاذ النظام ليس هدفاً بحد ذاته، بل وسيلة لإثبات الذات والتقدم خطوة أخرى للعب روسيا دور دولة عظمى عالمياً، عبر الشرق الأوسط.

 
وأوجز بشارة أهداف التدخل العسكري الروسي المباشر في سورية في ثلاث نقاط: جعل النظام يصمد مدّة كافية، حتى تحصل موسكو على الاختراق المرغوب به على المسار الدبلوماسي؛ قطع الطريق على أي تدخل عسكري خارجي في سوريّة، وهذه رسالة للأتراك والغرب؛ تعزيز وضع روسيا الدبلوماسي، ويصبح من الصعب اتخاذ أي قرار في سوريّة من دون مشاركتها الحاسمة. ويرى وجود كابحين ذاتيين رئيسين أمام تكثيف التدخل الروسي العسكري في سوريّة، أولهما أوكرانيا، فلا تزال القوات الروسيّة متمركزة في مناطق الحرب هناك؛ وثانيهما كابح لوجستي، إذ إن نقل دبابات وأسلحة ثقيلة لفيلق واحد فقط مهمّة صعبة جداً للقوات الروسيّة المجهدة أصلاً.

عودة إلى الدولة العظمى... والانتقام

ويرى نائب مدير معهد الدراسات الدولية في معهد موسكو الحكومي للعلاقات الدولية، فيكتور ميزن، أن سياسة روسيا في سورية حالياً تجلٍّ لعودة روسيا قوة عظمى في الساحة الدولية، بعودتها إلى منطقة مهمة استراتيجياً، ومشاركتها في محاربة الإرهاب وحماية مصالحها الأمنية. ولم يهمل كون التدخل الروسي محاولة أيضاً لتحويل الأنظار عن الفوضى التي تورطت فيها روسيا في أوكرانيا، وفي الوقت نفسه، إثبات أن روسيا ليست في عزلة دولية. وتوقع ميزن، في ورقته في الندوة، أن تكثف روسيا ضرباتها الجوية في سورية، وأن تستمر عملياتها هناك ثلاثة أو أربعة أشهر مقبلة، ما يتوقف على تطور الوضع الميداني، لتنتقل بعد ذلك إلى مرحلة جديدة تحدد بقيادة روسيا. ويجد أن النظر إلى سورية رقعةً تتصارع فيها مقاربات القانون الدولي والعلاقات بين الدول، يشير إلى أن روسيا تبدو متمسكة بمبادئ مؤتمر ويستفاليا ومركزية مفهوم السيادة وحق أي دولة في صد أي محاولة لتفكيكها، وفي المقابل تقود مفاهيم أخرى مثل "المسؤولية في حماية الشعوب".

وقال ميزن إن روسيا تسعى، ولو بشكل غير رسمي، إلى بلورة مفهومها الخاص "المحافظ المتنور" في مواجهة "التفسخ الغربي" وانحلاله من القيم الأخلاقية والروحية، وهي ترى أنها تكسب تعاطفاً عبر العالم، وفي العالم الإسلامي خصوصاً، ممن ضاقوا ذرعا بسعي أميركا للهيمنة على العالم. وأوضح أنه لا أحد من الأطراف الدولية ذات المصلحة في سورية يريد إنتاج "ثقب أسود" جديد من عدم الاستقرار والإرهاب، وأن التوجه إلى حل سياسي تفاوضي أمر محتوم. ويعتقد أن مسار الحل في سورية قد يمر عبر هيكلة مشابهة لمفاوضات إيران مع مجموعة "خمسة زائد واحد"، بحيث تضم الولايات المتحدة وروسيا وممثل الاتحاد الأوروبي وتركيا وممثلاً لدول الخليج مع مشاركة الأردن.

اقرأ أيضاً الجبير: التدخل الروسي في سورية خطير جداً

وطرح الباحث ومنسق وحدة تحليل السياسات في المركز العربي، مروان قبلان، أن التدخل الروسي في سورية يمكن فهمه من مرتكزين؛ أولهما "نظرة بوتين إلى الأمور والعالم"، فهو مصرّ على إعادة روسيا إلى مصاف الدولة العظمى، كما أنه محبط من تعامل الغرب معه، واستخفافه به، ومحبط أساساً من تعامل أوباما معه، إذ لم يفض التقارب الذي دشنه أوباما مع بوتين إلى أن يكون الأخير الشريك الند، بل كان أوباما أول دافع نحو فرض عقوبات على روسيا في أعقاب الأزمة الأوكرانية، كأنه يتعامل مع أي دولة صغيرة. ويشعر بوتين براحة أكبر عندما يتقارب ويتحالف مع من يشبهه، فالدكتاتوريات ترتاح أكثر لدكتاتوريات مشابهة. وفي المجمل، يرى قبلان أن روسيا بوتين تدخلت في سورية عسكرياً على الميدان إثباتا للذات، و"انتقاماً" من تعامل الغرب معها، خصوصاً في أوكرانيا. والمدخل الثاني لفهم التدخل الروسي هو السياق الدولي الملائم الذي يميزه الانكفاء الأميركي، ما يفتح المجال لتنافس أربع قوى إقليمية؛ تركيا وإيران اللتان لهما سياسة توسع، وإسرائيل التي لا تحظى بحلفاء في المنطقة، لكنها تستغل كل ثغرة تحقق مصالحها، والقوة الرابعة السعودية التي ينحصر اهتمامها حالياً في منع القوى الأخرى من تحقيق طموحاتها التوسعية.



روسيا ومفاتيح الحل السوري

ويرى الأستاذ الجامعي وأول رئيس للمجلس الوطنيّ السوريّ، برهان غليون، أن روسيا وضعت نفسها في موقع الطرف الأول في الوضع السوري، ولديها جزء كبير من مفاتيح الحل، فقد فرض تدخلها العسكري المباشر وجودها، وهي تحظى بما يشبه التفويض الدولي لقيادة عملية التسوية السياسية، من دون أن يعني ذلك التفاهم المسبق على شروط هذه التسوية وماهيتها. كما أنها أصبحت الوحيدة التي تملك القدرة على التواصل مع جميع الأطراف السورية والإقليمية والدولية، وعلاقات متميزة مع الخصوم الإقليميين الرئيسيين: إيران السعودية وتركيا، وكذلك مع أطراف المعارضة السورية المعتدلة وغير المعتدلة، وهي الوحيدة التي تملك إمكانية التأثير على الموقف الإيراني، من منطلق التحالف والصداقة.

وفي الوقت نفسه، يرى غليون أن هذا الموقع المتميز لروسيا لا يعني، بالضرورة، نجاح بوتين في استخدام المفاتيح والأوراق التي في حوزته بشكل صحيح، إذ يواجه ذلك تحديان رئيسيان؛ أولهما، التصور المسبق الذي يحمله الروس عن طبيعة الحرب ورفضهم، منذ البداية، الاعتراف بشرعية مطالب السوريين، وثانيهما، تشتت المعارضة وغياب القطب الجامع والمسيطر فيها، ما يضعف موقعها، ويساعد على تهميشها.

ويؤكد برهان غليون ضرورة وقوف الدول العربية بقوة وراء المعارضة وعدم التسليم لنيات موسكو أو الثقة بها، والمساعدة على إبراز قيادة وطنية سورية، تضم تحت جناحها جميع الفصائل المسلحة وغير المسلحة، وتمثلها وتتكلم باسمها. وتلك هي الضمانة الوحيدة للدفاع عن حقوق الشعب السوري وثورته في مواجهة تفاهمات جيوستراتيجية بين القوى الدولية المتصارعة في الرقعة السورية.

اقرأ أيضاً الأسد في موسكو قبل فيينا السوري: الخروج الأول

ردود فعل

وبحثت ورقة مدير مركز دراسات أمن الطاقة في منظمة البحوث الاستراتيجية الدولية، سليم أوزرتيم، انعكاسات تحول الاستراتيجية الروسية في سورية على السياسة الخارجية التركية. وأوضح فيها أن الرد التركي على التدخل الروسي يتم بالبحث عن نقطة تطبيع جديدة في العلاقة مع روسيا قائمة على المعطيات الجديدة. وطرح رود ثورنتون، الخبير بالشؤون العسكرية الروسية والأستاذ في جامعة كينغز كوليدج لندن، أن ما يجمع روسيا وإيران في سورية تمسكهما ببقاء الأسد على اختلاف أسبابهما، ويلتقيان عند الرغبة في إنهاء خطر "داعش" أو تحييده.

واعتبر سيرغي ستروخان، المحلل السياسي في دار النشر الروسية "كوميرسانت" التوقعات التي طرحت عن إمكانية اشتراك روسيا والتحالف الغربي ضد داعش في حلف واحد كانت ساذجة. وأن ما حدث هو تشكل حلف ثانٍ ضد داعش لا يتشارك مع الحلف الغربي في نظرته إلى الأزمة السورية، وفي تعاونه مع نظام بشار الأسد وحمايته له، ويضم مع روسيا إيران والعراق والنظام السوري نفسه. ويقدر أن التدخل الروسي المباشر في سورية تسبب في خلخلة التحالف الغربي العربي، ونموذج ذلك تأكيد الإمارات (أحد أعضاء التحالف الغربي-العربي) أنها لا ترى في التدخل الروسي خطراً، وأنها لا تبالي برغبة روسيا في بقاء نظام الأسد. ويرى ستروخان أن تنافس الحلفين لن يحدد من منهما سيحقق النصر على الإرهاب، لكنه سيحدد النظام الإقليمي الجديد للمنطقة.

وقلل الباحث في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، حيدر سعيد، من إمكانية تمدد التدخل الروسي إلى العراق، لأن للحملة الروسية منطقها العسكري، وثمة هدف عسكري، واضح ومحدد، يتمثل بقطع الطريق إلى دمشق، أمام الجماعات المسلحة السورية، بعد ما بدا أن في وسع هذه الجماعات تهديد دمشق والوصول إليها، ومن ثم، تهديد النظام السوري في وجوده، وذلك بعد ما حققت هذه الجماعات من تقدم على هذا المسار أخيراً. وهذا يعني أن داعش خارج دائرة الأهداف الروسية لهذه الحملة. ومن ثم، يبدو أن العراق كله يقع خارج دائرة التفكير الروسي، غير أن إعلان روسيا عن إنشاء مركز تعاون استخباري أمني، يجمع روسيا وإيران والعراق وسورية، مقره في بغداد، يبقي احتمالاً ضعيفاً لمساعدة روسية في الحرب ضد داعش في العراق. ويرى سعيد أن ثمة موقفين عراقيين من الحملة الروسية: الرسمي، الذي يعلن أنه لا يقبل بأن يندرج العراق في سياسة المحاور القائمة، وموقف "الحشد الشعبي" الذي انخرط في التنسيق مع الروس، ليس في العراق فقط، بل أيضاً في ما يخص الوضع القتالي في سورية، ويجمع الآن ما هو أكثر من الحلف الرباعي السالف، كل الأطراف الداعمة لنظام الأسد، والتي قبلت بأن تكون جزءاً تنفيذياً من الحملة التي تقودها روسيا.

وقال الباحث رضوان زيادة إن الرئيس باراك أوباما يبدو منسجماً تماماً مع عقيدته السياسية في الانسحاب الكامل من منطقة الشرق الأوسط، وعدم استخدام القوة العسكرية عند الحاجة لها، بالنظر إلى التكاليف الباهظة التي تحملتها إدارة بوش السابقة في حربيها في العراق وأفغانستان. لكن هذا الانسحاب الكامل كلف الولايات المتحدة خسارة مواقع استراتيجية، ليس فقط في منطقة الشرق الأوسط وإنما في أوروبا الشرقية أيضاً، وخصوصاً في أوكرانيا. وفي الوقت نفسه، يعد ظهور داعش وتمدده في المشرق العربي في سورية والعراق هزيمة استراتيجية لعقيدة الولايات المتحدة في مكافحة الإرهاب.

وأوضح الباحث المشارك في المركز العربي، محمود محارب، في ورقته أن إسرائيل تولي أهمية كبيرة للتدخل العسكري الروسي المباشر في سورية، وتعتبر أن هذا التصعيد قد يخدم سياساتها ومواقفها التي بلورتها منذ تفجر الثورة السورية، وهي إطالة أمد الحرب أطول فترة ممكنة لإضعاف سورية، الدولة والشعب والجيش، وتقسيمها على أسس طائفية وإثنية، وإخراجها من دائرة الصراع مع إسرائيل أطول فترة ممكنة، وإبقاء نظام بشار الأسد في الحكم ضعيفاً.

اقرأ أيضاً: اجتماع فيينا: ردود فعل متباينة في الأوساط السورية